محمود عبد الوهاب تجتذبني الورقة البيضاء إليها دائما. أعشقها ، إنها تسكبُ في عينيَّ لمعان صقالتها، ونعومة بشرتها، ورهافة بياضها، إنها تعني بالتالي، عذريّتها، ومن دون أن تكون الورقة قريناً لسواد الكتابة، أرى أنّ بياضها الدائم يعني عنوستها،الكتابة تناسلٌ وحَبَلٌ،
ومن ثمّ ولادة نصوص. ما إنْ أرى الورقة بيضاء حتى تعتريني رغبة جامحة لاستنطاقها بالكتابة، أن أخرجها من خَرسها إلى القول النابه، أفعل ذلك، أكتب وأكتبُ. أُودعُ ما أكتب في الدرج، احتفاظاً بالمحاولة حتى يأتي الأصيل منها، تتراكم المحاولات المنبوذة من أوراق المسوّدات، مسوّدة بعد أخرى، المسوّدة الأولى تليها الثانية والثالثة، ومسوّدات ما بعد الأولى، تتجمّلُ عن سابقاتها، فالمسوّدة مثل الضرَّة، إحداها تغيظُ الأخرى، وتسعى مناكدة : . لتمنحَ صاحبها براعة المكتوب وكمال الصنعة.لا تأتي الكتابةُ في الورقة إلا في لحظةٍ استثنائية، تحلُّ هذه اللحظة فجأةً "كالثلج وتذوب بسرعة مثله"، في تلك اللحظة ما إن يخترق الكاتب قشرة الواقع، ويشرّع حواسّهُ لاقتناص ذلك الاستثناء، حتى يكتسي عظامه "جسد عاشق جديد"، يُودعُ في ما يكتُب أبهى أشواقهِ صفاءً ونقاءً، ذلكَ هو التجوال الخلاّق، والوادي السّري الذي تواكبت عليه أجيالٌ من الكُتَّاب، هو سواد الكتابة: الملح الذي لا يفسد.لكي يكون تجوالُكَ في الورقة، وسياحتُكَ بين سطورها، بهجةً ومعرفةً، عليكَ أن تبدأ من أعلى طبقاتها: العنوان. عنوان المبدع، هو السلّم الذي يرتقيه في كتابته، كأنه يُجيبُ عن سؤال العنوان في ما يكتب، نصاً إبداعياً. العنوان الجيّد في ورقة المبدع، تصوغهُ نصوصُهُ، فمعَ تصاعد القصة – حسب ماركيز- لا قبل كتابتها، تتنامى إمكانية العثور على عنوانٍ أفضل.الورقةُ من دون عنوانها، تفتقرُ إلى اسمها، إلى هويتها، فالعنوانُ وميضُ الفنار الذي تلجأُ إليه سفينةُ القراءة، وتهتدي ، بضوئه، الكتابةُ أحياناً.يبدأُ الملمسُ اللفظيّ في الورقة، بالجملة العَتَبَة، جملة الابتداء، جملة الاستهلال، إنها البداية وشبكة صيد القارئ. أصعبُ الحالات، أن تعقد علاقةً أو صلةً برجلٍ تتعرف إليه، أولَ مرة، ذلكَ هو مدخلُ الورقة إلى الكتابة. من الملمس اللفظي للبداية تأخذُ السياقات إضاءاتها من وميض المعاني، في سيرورةٍ من العناء النفسي الذي يمنحنا مساحةً من الإتساق النقي للنصّ، في أبهاء الورقة.في قاعِ الورقة، في أعمق طبقاتها، تكونُ جملة الإقفال، جملة الإنتشاء بالمقروء، ومتعة الرحلة داخل الورقة، إنها المُركَّب الناتج عن كيمياء الكتابة. ليسَ في الإبداع قانونٌ ينظّمُ عمليتهُ، ولا أحدَ بإمكانه أن يكونَ ناصحاً للمبدع أو مُرشداً يُقرّر لهُ صلاحية البدايات أو الإقفال، غير حدسه الفَطِنْ ودهشتهِ الدائمة لما حوله. إمتيازُ المبدع أن يجعلَ عيون قارئيه ترى العالم بعينيه هو، لا بأعينهم هم.يرى عددٌ من الدارسين أن جملة الإقفال ينبغي لها أن تكون صادمة للمتلقي، صادمة بمعنى أن تتركَ جرحاً عذباً في نفسه، قد يكون ذلك صواباً في عددٍ من النصوص، غير أنها ليست قانوناً منضبطاً. تأتي جملة الإقفال حصيلة تفاعل مكوّنات النص وممكناته، ويرى عددٌ آخر من الدارسين أن إبهار القارئ بجملة الإقفال، في نهايات النصوص، قد يفسدهاًّ، ذلك رأيٌ شخصيٌّ محض.كتبَ الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو محاضراته في الإبداع بعنوان "ست وصايا للألفية القادمة" هي في حقيقتها خصائص أدبية كان كالفينو يؤثرها على غيرها من الخصائص، وهي الخفةُ والسرعةُ والدقةُ والوضوحُ والتعددية، ولم يُكمل كالفينو وصيته السادسة التي كان يميل إلى تسميتها بـ"الاتساق" لرحيله عام 1985، وعلى الرغم من محاولته الجادة في رسم طريق الكتابة، تبقى تلك الوصايا رأياً شخصياً أيضاً.ورقةُ المبدع، ثم نصُّهُ المكتوب والمطبوع، هي رحلة المستكشف إلى قارةٍ مجهولة، لا يعرفُ المبدعُ نفسهُ كثافة أدغالها المتشابكة، إلا بعد أن تكونَ الورقة منجزاً واضحَ القسَمات. بعدَ عناء الروح وغربتها، يفتحُ المبدعُ ذراعيهِ لاستقبال قاطني قارّته من القرّاء الاستثنائيين، ليُمسكوا بمجسّاتهم المُرهَفة، دهشةَ الرائي وحُلمه في تجاوز ما هو كائن، إلى ما هو رؤيا ونشوة باقتحام كينونتهِ، والخروج من أسرها المحدود.الى ماهو كوني يأخذ بالاتساع.
اوراق :فـي مديح الورقة
نشر في: 11 مايو, 2010: 06:35 م