لطفية الدليمي
( الفلسفة مبحثٌ وشغف يستعصيان على الموت): لعل هذه العبارة تختزل بطريقة بلاغية رائعة الوضع الفلسفي في كلّ العصور لأنها تعلي شأن الإنسان باعتباره كينونة مسكونة بشغف التساؤل المفضي للدهشة الفلسفية؛ لكن برغم هذا ليس من قبيل الخطأ أن نتساءل : ماهي الفلسفة الحقيقية الخليقة بأن تسود المشهد الإنساني في القرن الحادي والعشرين؟
يقدّم لنا الفيلسوف الأمريكي الراحل جيري فودور ( 1935 – 2017 ) مقاربة في هذا الشأن أراها أفضل مايعبّر عن الراهن الفلسفي . يرى فودور أنّ الإعتقاد السائد هو كونُ الفلسفة مبحثاً يُعنى بصورة أساسية بالحقيقة و الخير و الجمال ؛ لكنه يجِدُ أنّ هذا التوصيف لدور الفلسفة غير مُجْدٍ ، ومقيّدٌ و واهِمٌ إلى حدّ بعيد؛ إذ ليس هناك إلا القليل من الفعاليات الذهنية التي لا يمكن للفلاسفة أن يدّسوا أنوفهم فيها بطريقة مُثمِرة ونافِعة ،وتوفِّر كل العلوم الطبيعية و الإنسانية و الإجتماعية تربة خصبة لنمو الفكر الفلسفي كما تفعل الفنون والآداب والتأريخ والسياسة والشؤون اليومية العامّة، وهناك دوماً عددٌ غير قليل من الفلاسفة ممّن لا يرغبون في التداخُل مع معطيات البحث العلمي الذي يمتُّ بِصلة ما إلى ميدان أبحاثهم الفلسفية الخاصّة ؛ فتكون النتيجة الحتميّة الإنعزال في حدود اختصاص ضيّق مصحوب بضيق في النظرة والتفكير، يقتربان من حدود الهزل ، وربما يقودان إلى نتائج مأساوية أحياناً، وفي الضفة الأخرى يوجد نوع من الفلاسفة يعلون من قوّة العلم بصورة طغيانية قد تكون ماحِقة للروح الفلسفية المتوهِّجة، وهم في هذا لا يختلفون عن نظرائهم من الفلاسفة ضيِّقي الأفق .
يبدو الفيلسوف سلافوي جيجك للوهلة الأولى ممثلاً معيارياً لرؤية الفيلسوف الراحل فودور بشأن أهمية أن " يدسّ الفيلسوف أنفه " في كلّ الموضوعات ليساعد الناس في عيش حياة طيبة، وأظنّ أن جيجك لم يكتفِ بدسّ أنفه بل راح يستطيب الإعلانات الصاخبة المثيرة التي يمكن وصفها بأنها بعض مواريث عصر ( السرديات الكبرى والآيديولوجيات المهيمنة ) التي حفل بها القرن العشرون، وهو إذ يفعل هذا لاأراه يساعد الناس في عيش حياة طيبة بقدر ماينذرهم بمشاهد النهايات القياميّة حتى صار بوسع المرء أن يصفه بفيلسوف السيناريوهات القياميّة .
لسنا أناساً غير مكترثين أو على درجة كبيرة من الغفلة لكي نقول بأننا لانعرف المديات الخطيرة للمعضلات الوجودية الكبرى التي تواجه الأرض ومن عليها ؛ إنما هناك فرق جوهري بين توصيف المعضلات بهدوء لوضع ستراتيجيات عملية للتعامل معها بتَروٍ ( كما يفعل العلماء وراسمو الخطط التقنية ) وبين المبشّرين بنذر قيامة ماحقة باتوا يرونها وشيكة .
لم يتأخر جيجك كثيراً في ركوب موجة الجائحة الكورونية الراهنة؛ فجمع بعضاً من مقالاته التبشيرية بأنواع شتى من الميتات في كتاب صغير نشره على عجالة بعنوان ( الجائحة : كوفيد - 19 يهزّ العالم )، ولو ألقينا نظرة سريعة على عناوين فصوله ( التي تتميّز بشحنة درامية مقصودة ) لأدركنا مدى تسرّع جيجك في التبشير برؤاه وكأنه يراها حقائق متجسدة على الأرض . جيجك فيلسوف متعجّلٌ وتبدو طروحاته أقرب إلى النزق الفلسفي، وهو مسكون برؤى شخصية لاأراها تساعد الناس على عيش حياة طيبة عبر اعتماد مقاربات يمكن تجسيدها على الأرض، وأظنّ أنّ العالم بحاجة لمزيد من فلاسفة ينتزعون القيمة الثرية المكنونة في أبسط التفاصيل الصغيرة بدلاً من تمسكهم بسردياتهم الكبرى التي قد يستبدلونها بين يوم وآخر - وهم مسترخون على مقعد مرحاضهم كما فعل جيجك في صوره الساخرة الأخيرة.