علي رياح
كانت دهشتي عظيمة حين بلغت مقصدي وترجّـلت من القطار المنطلق من قلب العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس – ومعناها النسيم العليل – نحو ملعب (لا بومبونيرا) معقل نادي بوكا جونيورز!
سكة القطار لا تبعد سوى أمتار قليلة عن مدرجات الملعب الذي اعتاد على أن يتمايل اهتزازاً لمرور القطار الذي يحمل المئات من المشجعين في كل مباراة وحتى خلال الوحدات التدريبية!
مصدر الدهشة أنني وجدت صنوفاً شتى من السياح الأجانب .. بين من يقتطع تذكرة رخيصة الثمن لزيارة الملعب ويتجوّل في أرجائه ، ومن يقف أمام الواجهة الرئيسة مُتكلـّفاً الابتسامة لالتقاط الصور ، وقسم ثالث من السيّاح راح يهرب من أيدي الشحاذين والتي تطاولت بحثاً عن قطعة صغيرة من البيزو عملة الأرجنتين ، فنحن هنا في (لا بوكا) حي الفقراء!
اخترت أنا الدخول إلى المتجر الكبير الذي يشمخ عند البوابة ، ففيه كل ما يخطر في البال من تجهيزات رياضية وهدايا تذكارية وصور عملاقة لأشهر نجوم بوكا جونيورز على مرّ العصور .. وقد لاحظ الموظف الشاب في المتجر حيرتي ، فانطلق ليقف بجانبي من باب تسهيل أمر الاختيار والشراء .. وحين عرف أنني عربي الهوية وتحديداً من العراق ، تركني على الفور وانطلق إلى رجل طاعن في السن يتخذ من إحدى زوايا المتجر مكانا لتأملاته .. كان واضحاً أنه صاحب المتجر .. وجرى حوار سريع بين الاثنين لم يكن مفهوماً لدي ، نهض بعده الشيخ من كرسيه وأقبل نحوي مُهللاً متسائلاً : حقاً .. أنت من العراق يا ولدي؟!
فلما أجبته ، أطلق الرجل العجوز تنهيدة طويلة وقد تجهّم وجهه وسرح بعيداً عن المكان ليفاجئني بمعلومة لم أكن على صلة بها أبداً .. قال لي : تعرف يا صديقي أنني كنت أحلم بالذهاب إلى العراق واللعب فيه .. كنت لاعباً في فريق بوكا جونيورز خلال السبعينيات ، وقد أعلمتنا الإدارة وقتها أننا سنزور الشرق الأوسط ، وستكون لنا مباراتان في العراق بلد الحضارات!
الشيخ العجوز واصل سرد التفصيلات وكنت في غاية الدهشة ، ثم كان عليَّ أن أسأله : ولماذا لم تتم تلك الرحلة إلى العراق؟!
قال لي صاحب المتجر : حسب علمي ، فإن المفاوضات مع الاتحاد العراقي وصلت إلى مستوى متقدم قبل أن تتوقف .. الاتحاد العراقي عرض مبلغ ستة آلاف دولار أمريكي نظير خوضنا المباراتين ، وإدارة النادي طلبت ستة آلاف دينار عراقي .. (الفرق واضح ، إذ كان الدينار العراقي الواحد يزيد قليلاً عن ثلاثة دولارات) !!
حتى هذه اللحظة ، لم أكن مصدقاً كل هذا الاستطراد الذي جاء على لسان اللاعب أوزفالدو بوتينتي نجم بوكا الأسبق وعضو مجلس إدارة النادي الحالي.. وقد عقدتُ العزم على أن أبحث في كل المصادر الممكنة لدى العودة إلى العراق .. وكانت المفاجأة!
فقد وجدت في إحدى الصحف العراقية الصادرة عام 1973 ما يشير إلى أن النادي الأرجنتيني هو الذي أبدى رغبته في زيارة العراق ، وأنه بالفعل طلب ستة آلاف دينار عراقي ، فيما اكتفى الاتحاد العراقي بعرض مبلغ ألفي دينار ثمناً للمباراتين!
مضت سبع وأربعون سنة على زيارة تاريخية لم تتم ، يوم كانت لدينارنا العتيد قيمة نتباهى بها .. ويوم كان ترتيب مثل هذه المباريات ممكنا وهيّـنا قبل استفحال لغة الاحتراف والتسويق .. ويوم كان ملعب الشعب مَهبطا لأندية ومنتخبات شهيرة كانت تتطلع إلى اللعب هنا..
كل شيء كان رائقاً في كرة القدم ، قبل تعقيدات المال والتمويل ، وقبل انطلاق الأرقام الفلكية إلى سقوف خيالية في استجابة لمتطلبات البيع والشراء في كل التفاصيل!