لطفية الدليمي
تلمّس سكان الكوكب الأرضي خلال الأشهر الأربعة الماضيات تسارع وتيرة وباء كوفيد 19 في الوقت الذي تباطأت فيه وتيرة الحياة البشرية على نحو غير مسبوق ؛
فقد تجمدت كل الفعاليات والأنشطة الثقافية ومعارض الكتب والمسرحيات والحفلات الموسيقية مثلما توقفت تماماً حفلات الزفاف والأنشطة المجتمعية التقليدية والمدارس والجامعات بعدما حجرت التوصيات الصحية المتشددة على مليارات البشر في منازلهم ، وطال الحجر حتى أؤلئك الذين لاتعني لهم البيوت مستقرا آمناً ؛ فمنهم من يرتبط عيشه وبقاؤه بنمط حياة الشوارع في المدن الكبرى مثل الباعة الجوالين والمتشردين الذين يأوون إلى محطات المترو أو يلوذون تحت الجسور ويتنقلون بين القطارات ، وكذلك إختفى النشالون وبائعات الهوى وتوقف عمل عصابات الجريمة المنظمة .
يتناول كتاب ( مجتمع التسارع ) للفيلسوف وعالم الإجتماع الألماني هارتموت روزا Hartmut Rosa آفة مجتمعاتنا الحديثة وهي السرعة المفرطة لتطور التقنيات وسعي الناس اللاهثين للحاق بها : يؤمن هارتموت بأن الحداثة عجّلت في وتيرة تسارع الأحداث وبالتالي أسهمت في تسارع التغيرات الإجتماعية المرتبطة بالتطور التقني ؛ فالحداثة تدفع بالبشر إلى التقدم المتواتر أي الهروب إلى الأمام من غير يقين يثبت للإنسانية بأن هذا التقدم المتسارع سيغير الحياة إلى الأفضل في مجتمعات تبنّت أوهام اليوتوبيات والتبشير بها بعد الحرب العالمية الثانية حول مستقبل وشيك تتمتع فيه البشرية بالسلام والإكتفاء والأمان والسعادة .
ميّزت سرعة التحديث التقني الهائلة القرن العشرين ، وتفاقمت وتعالت وتيرتها في العقدين الأولين من هذا القرن ، وتسبّبت بأعراض إجتماعية وصحية خطيرة من بينها إنكفاء البشر وشقاؤهم بسبب التنافس والصراعات وارتفاع أعداد مرضى الاكتئاب ، ونتيجة لكل ماسبق تكاثرت في العالم الحديث سياسات الطوارئ وردود الأفعال التي تسمح بتغوّل الحكومات وقضم الحريات وتقييد المجتمع لمعالجة الأزمات الجديدة. يخبرنا هارتموت أن مانشهده اليوم من التحديث السريع أدى لظهور " أفراد بلا مستقبل وحكومات تحركها ردود الأفعال وهو انقلاب ضد مشروع الحداثة " .
لمواجهة السرعة المتفاقمة دعا عدد من المفكرين إلى تخفيف وتيرة التسارع في المدن المعاصرة التي يفترسها وحش التنافس ؛ فظهرت دعوات للعيش في الريف بعيداً عن معضلات المدن الكبرى ، وظهرت أعمال ونصوص في مديح البطء ؛ غير أن الدعوات بقيت محض أفكار غير قابلة للتنفيذ في مجتمعات إستهلاكية تستنفد طاقة البشر في التسابق لإشباع شهوة الإستبدال - تلك الشهوة التي تستثار لإدامة الصناعة عبر سيل الإعلانات التجارية وهي تروّج لتبديل طُرز الأزياء والسيارات والموبايلات وصولاً إلى تبديل شركاء الحياة مما ضاعف أعراض السرعة المتمثلة بالتنافس والصراعات اليومية على المكانة ، وقد أشار إلى ذلك الجنون الاستهلاكي عالم الإجتماع الراحل "زيغمونت باومان" في كتابه " الحداثة السائلة" . وبغتة إجتاح (كوفيد 19 ) كوكبنا اللاهث ؛ فحصل التباطؤ المفاجئ ، وبدا الوباء وكأنه الحل المرتجى الذي كبح وتيرة الحياة المجنونة ، وتنفس العالم الصعداء طوال الشهور الماضية بعد أن توقّفت معظم المعامل والمصانع والسيارات والقطارات والطائرات ، فتناقصت نسب التلوث في الهواء مثلما تناقص مستوى التلوث الصوتي ، وتحقق التباطؤ المرتجى الذي أربك السياسة فلجأت الحكومات إلى اتخاذ ردود أفعال متعجلة لمواجهة الكارثة مما أنتج تقييداً كاملاً للحريات الفردية والعامة وانهياراً في الإقتصاد ؛ بينما إستعاد الأفراد في الحجر علاقتهم مع عوائلهم وأنصتوا للموسيقى وقرأوا المزيد من الكتب وانصرفوا لإعداد طعامهم بدل الوجبات السريعة .
هل إجتاحنا الوباء ليصبح نوعاً من الحل لمعضلاتنا كما كان البرابرة في قصيدة كافافيس؟