عبد الحليم الرهيمي
حلت أمس الذكرى السنوية على مرور مائة عام لانطلاق الثورة الوطنية العراقية الكبرى التي يطلق عليها البعض (ثورة العشرين) والتي مهدت وأدت الى البدء بتأسيس الدولة العراقية الحديثة .
ورغم تناول واهتمام العديد من الدراسات والمقالات التي كتبت عن هذه الثورة ومسارها وإشكالاتها وعن تأسيس الدولة العراقية وتعقد القضايا التي واجهتها خلال فترة البدء ببناء مؤسساتها ، لكن معظم تلك الدراسات لم تف بالغرض المطلوب أو المفترض منها وهو تحليل معمق ونقدي لتلك الاشكالات والقضايا والمعوقات التي واجهتها ، واستخلاص الدروس والعبر من النجاحات والاخفاقات التي مرت بها .
ومنذ البدء كان التباين أو الاختلاف في توصيف الثورة التي شاعت تسميتها بـ (ثورة العشرين) وذلك نسبة للعام الذي وقعت فيه وهو العام 1920 الذي يسبغ عليها صفة زمنية فحسب دون دلالة سياسية أو وطنية ، في حين اطلق عليها كثير من المؤرخين والكتاب تسمية (الثورة الوطنية العراقية الكبرى) وهي التسمية التي تسبغ عليها الصفة السياسية والوطنية الحقيقية المعبرة فعلاً عن مضمونها ودلالاتها ، ولعل أبرز من اطلق هذه التسمية عليها هم المؤرخون عبد الرزاق الحسني وعبدالله فياض وفاروق صالح العمر ، ومحمد علي كمال الدين والكاتب الروسي ن . ل كوتولوف ... وغيرهم .
لقد اندلعت الثورة في الثلاثين من حزيران عام 1920 وهو اليوم الذي مهدت له المواجهات العسكرية المتواصلة ضد قوات الاحتلال البريطاني منذ دخولها البصرة في تشرين الثاني عام 1914 مروراً بمعركة الشعيبة ومعركة حصار الكوت العام 1917 ثم انتفاضة النجف العام 1918 وغيرها من مواجهات عسكرية ترافقت أيضاً بمواقف سياسية اتخذتها القيادات الدينية والعشائرية في منطقة الفرات الأوسط والقيادات السياسية من المثقفين والكتاب في بغداد أزاء المخططات البريطانية لتهنيد العراق أو تقسيمه أو فرض الوصايات الدولية عليه بالضد من أرادة شعبه .
وبينما أظهرت المواجهات الشعبية المسلحة لقوات الاحتلال البريطاني بطولات وتضحيات نادرة للثوار فقد رافقها جهد سياسي وثقافي وإعلامي واسع النطاق كانت توجهه قيادات الثورة من النجف والفرات الأوسط والعاصمة بغداد ، تمثل ذلك بإصدار جريدتي (الاستقلال) و (الفرات) وفي الندوات والاجتماعات الثقافية والشعائر الدينية ، فضلاً عن المواجهات السياسية برفض محاولات سلطات الاحتلال تزوير عمليات الاستفتاء (1918-1919) التي كانت تقوم بناء على مطالبات الهيئات الدولية .
وخلال شهر آب – أغسطس 1920 وصلت الثورة الى ذروة قوتها ومواجهتها للقوات البريطانية ، الأمر الذي دفع أو أرغم نائب الحاكم المدني (أرنولد ولسون) في أواخر هذا الشهر على توجيه رسالة الى المرجع الاسلامي الشيعي في النجف الإمام شيخ الشريعة (الذي تولى المرجعية وقيادة الثورة بعد وفاة سلفه الإمام الشيرازي) يقترح فيها التفاوض عبره مع قيادة الثورة . وبدلاً من التقاط قادة الثورة والمرجعية الدينية هذا العرض – الاقتراح والثورة في ذروة قوتها ، وبما يمكنها من فرض معظم شروطها ، غير أن ذلك لم يحصل إنما أدى هذا الاقتراح الى حدوث انقسام داخل قيادة الثورة وحتى داخل صفوف الرأي العام المتعاطف معها حيث برز موقفان أحدهما يرفض التفاوض لاعتقاده بأنه يؤدي لنتائج غير محمودة والثاني موقف واقعي يؤيد التفاوض مع سلطات الاحتلال مستفيداً من عرضها ومن قوة الثورة في تحقيق العديد من أهدافها كخطوة أولى نحو تحقيق بقية الأهداف ، وقد مثل الاتجاه الاول أكثرية أعضاء (الهيئة العلمية) للثورة المؤلفة من خمسة عشر عضواً ايد اقترح التفاوض ثلاثة منهم وكذلك عارض التفاوض (المجلس الحربي الأعلى) ، أما المرجع الديني شيخ الشريعة الذي يوصف بتمتعه بالحصافة ورجاحة الرأي وبعد النظر فقد وقع تحت ضغط الموقفين لاسيما الموقف الرافض للتفاوض ، لكنه بعد صمت وتردد دام نحو أسبوعين رد على الرسالة المطولة لنائب الحاكم المدني برسالة في 15 ايلول أوضح فيها كل المساوئ والاجراءات القمعية للاحتلال ضد العراقيين وختم رسالته الجوابية بالقول : (أما أمر المفاوضة فلم تتضح لي غايته ولم أثق بحسن نهايته ، وعلى كل فهو أمر دقيق يحتاج الى جلاء فكر وتأمل .. ) ، ويبدد واضحاً من هذه الكلمات أن المرجع الديني والقائد الفعلي للثورة قد ترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية التفاوض والميل الى هذا الموقف ، كما أنه لم يعارض بقوة موقف الرافضين له واستبعاد احتمالات التصادم معهم ، وبسبب هذا الرفض واستمرار المواجهات العسكرية قامت القوات البريطانية بدءاً من 12 تشرين الاول 1920 بشن حملة عسكرية واسعة النطاق ضد أهم مراكز ومواقع الثورة أسفرت عن هزيمتها وفرض الاستسلام عليها في 20 تشرين الثاني وتم اعتقال وإبعاد العديد من قياداتها الدينية والعشائرية والسياسية المهمة الى خارج العراق .
استمرت الثورة ، كمواجهة عسكرية واسعة ضد قوات الاحتلال البريطاني نحو خمسة أشهر (من 30 حزيران حتى 20 تشرين الثاني – نوفمبر 1920) انتهت بفرض الهزيمة والاستسلام عليها دون أن تحقق أهدافها المعلنة (بجلاء الاحتلال ) وبأقامة (حكومة إسلامية) التي بقيت مجرد فكرة مبدئية دون أن تعطى شروحاً واضحة لهذا المبدأ – الشعار وأمكانية تحقيقه.
كان أحد الدروس الفرعية المهمة للثورة هو خطأ عدم إلتقاطها لاقتراح الحاكم المدني للتفاوض والثورة في موقع القوة ، أما الدرس الآخر ، فهو المعالجة الحكيمة والمتروية للخلاف الذي حدث بين قيادات الثورة والرأي العام حول اقتراح التفاوض أو رفضه مع سلطات الاحتلال ، حيث عمدت القيادات الدينية والسياسية من النجف وبغداد المؤيدة للتفاوض الى التحاور مع القيادات الرافضة له بشكل ودي ووطني مسؤول دون إدانة أو تخوين من أي طرف للطرف الآخر .
أما الدرس الكبير والأهم للثورة فهو دورها في تعطيل معظم المشاريع البريطانية والدولية التي كانت ترسم لتهنيد العراق أو تقسيمه أو فرض الوصاية عليه وكذلك دورها في أرغام سلطات الاحتلال طلب التفاوض معها ، غير أن رفض هذا التفاوض وهزيمة الثورة لم يلغ دورها الكبير في التمهيد وتوفير مقدمات تأسيس الدولة الحديثة لمصلحة العراقيين والبريطانيين آنذاك .
لقد أعقب هزيمة الثورة البدء بتأسيس الدولة العراقية الحديثة والمباشرة ببناء مؤسساتها لأقتناع سلطات الاحتلال استحالة حكم العراق بغير العراقيين وبغير طريقة تأسيس الدولة والتي ابتدأت بتشكيل حكومة وطنية (محلية) برئاسة عبد الرحمن الكيلاني نقيب أشراف بغداد والإعلان عنها في 25 تشرين الثاني 1920 والتي ضمت وزراء من مختلف التكونيات والعوائل العراقية المعروفة ثم تلا ذلك الإعلان عن تأسيس الجيش العراقي في 6 كانون الثاني – يناير 1921 ، ثم تنصيب الأمير فيصل ملكاً على العراق في 23 آب من العام نفسه تلا ذلك عقد الاتفاقية العراقية – البريطانية عام 1922 ثم اقرار الدستور (القانون الأساس) عام 1925 والبدء باجراء أول انتخابات تشريعية في العراق ... وهذا مهد لاستكمال بناء مؤسسات الدولة في السنوات والعقود التالية حتى 14 تموز عام 1958 .