فاروق عبد القادرالروائي والقاص العربي فؤاد التكرلي مبدع مقل متميز، ولد في بغداد في 1927، وأتم دراسة القانون فيها، ثم عمل قاضياً بمختلف مستويات التقاضي ، اقام سنوات في باريس وفي تونس، واحد مؤسسي الادب العراقي الحديث، تحمل قصصه القصيرة الاولى تواريخ 1950 و1951
كانت مع قصص عبد الملك نوري وذي النون ايوب –بداية القصة الفنية في العراق، اصدر مجموعته "الوجه الاخر" في عام 1960 واعيد طبعها مرات عديدة، لكنه قدم لها طبعة "تونسية" في سلسلة "عيون المعاصرة" بعنوان "موعد النارط في عام 1991، رفع منها اربع قصص بينها قصة المجموعة "الوجه الاخر" واضاف ثلاثا كتبت حول منتصف الثمانينيات، وعندي فان اهم انجازات فؤاد التكرلي، وواحدة من اهم انجازات الرواية العربية الحديثة على الاطلاق هي "الرجع البعيد" بدا كتابتها في باريس عام 1966 واتمها في بغداد عام 1977 وصدرت طبعتها الاولى في بيروت عام 1980 بعدها صدرت له روايتان: خاتم الرمل عام 1998 كذلك مارس شكلا اخر من اشكال الكتابة تمثل في هذه الحواريات . صدرت طبعتها الاولى في بغداد عام 1986 بعنوان "الصخرة والطوف" في عام 1987 يكتب في تقديم هذه الاخيرة: هذه المحاولات ليست من المسرح القابل للتمثيل فيما اعتقد انها اجدر بان تسمى حواريات ، لانها عمل في الحوار العربي، ومحاولة لصقله وجعله خفيفا وسريعا بمقدوره ان يضم الواقع اليومي، وان يرتفع به ليكون بؤرة لفكرة ما..". هذا كل حصاد التكرلي خلال خمسين عاما من الممارسة حصل العام الماضي على جائزة عربية كبرى، تتويجاً لعمله وعرفانا بما قدم. وقد لا أملك ان اقاوم الحاح الرغبة في ان ابدأ الدخول الى عالمه الثري من خلال الرجع البعيد، ما زلت اذكر العناء الذي لقيته في قراءتها اول الثمانينيات وما زلت اذكر، كذلك اعجابي بها والذي لم يفتر حتى الان، كان العناء لأن الحوار فيها، ومونولوجات الشخصيات، كلها مكتوبة بالعامية العراقية (البغدادية) التي تكاد تستغلق على غير اهلها، وحملت ملاحظتي هذه انذاك، الى نجيب محفوظ، وانا احدثه عن هذه الرواية الاسرة، فجاء رد كاهن الرواية العربية – الذي انطق الفتوات والمجاذيب والمومسات والسكارى بالعربية الفصحى- "لكن الفن كله كذب جميل، فلم يمتد الى اللغة التي تنطق بها الشخوص"؟. لا لست انوي اثارة قضية العاميات والفصحى من جديد، فقد بتنا نحفظ حجج الطرفين عن ظهر قلب، لكنني اود ان اثبت انطباعا تركت، عندي الرجع البعيد –وقد قرأتها عدة مرات، لاشك في ان الفصحى كانت ستحد من انطلاق ابطالها في التعبير عن انفسهم "حسين" في هواجسه وسكره، العجائز في خرفهن وهذرهن، الصغيرات في عفويتهن دع الان شخوصا مثل ابي شاكرن وابي عبعوب، او الحجي في رطانته التركية وطائر الموت يرف بجناحيه الاسودين فوق المدينة، بل انها – الفصحى ستحد من استدارة هذه الشخصيات واكتمالها وامتلائها بالحياة والحضور (ولعلني –لهذا السبب – لم اتحمس لمراجعة طبعة جديدة لرواية عاد فيها صاحبها فابدل بالعامية عربية فصحى بسيرة استجابة لاقتراح الناشر على الارجح لكن المؤكد ان التكرلي قد افاد من عمله الروائي الاول في عملية التاليين من حيث اللغة المستخدمة بوجه خاص). يتخلل الدم حياة هذه العائلة البغدادية من الفصل الاول حتى الاخير بعد يوم من ايامها المكرورة قضته في الطعام والشاي والثرثرة الفارغة، يرجع الابن الاصغر "كريم" وعلى يديه وثيابه يقع من دم صديقه الاثير، كانت حياة هذا الصديق –الذي لم نره – حيا خائبا وموتا عابثا، كأنما هي البللورة المسحورة التي نرى فيها صورة مصغرة للعالم الكبير: كذا هي الرواية كلها- بصفحاتها التي تقارب الاربعمئة حب خائب وموت عابث وفي الفصل الاخير يرتمي جسد "مدحت" الابن الاكبر، ملوثا بالدم والطين، يرتجف على اسفلت الشارع الخالي.بين الدم في الفصل الاول والدم في الفصل الاخير يخلق الروائي عالما كاملا يضج بالحركة والحياة، عالما من البشر الاحياء ليسوا تجريدات ولا رموزا لكنهم من لحم ودم وافكار ومشاعر ورؤى واحلام وهواجس وهلاوس، يقدمهم لنا الروائي في صحوهم وسكرهم، في حبهم وكرهم، في تأزمهم وانفراجهم في اهتمامهم ولامبالاتهم، يجمع بينهم جامع واحد، انهم مسحوقون امام الحياة، يتخبطون بين جدرانها، لايختارون ما يفعلون قدر ما "يحدث لهم" حتى مدحت: الحيسوب العاقل، رافع شعار "الانانية المنظمة" يلقى به في أتون تجربة عاصفة لا يستطيع لها احتمالا تنتزعه من عالمه المرتب، وتقذف به خارج مداره، ثم تأتي احداث عامة تنتزع مصيره، وتلقى به في خضم مجهول لينتهي صريعا، طريحا برصاص لايعرف من اطلقه، ضحية من ضحايا التاريخ في وثبة من وثباته القاها عن ظهره دون ان يبالي! كانت" منيرة" هي الحجر الذي القى في لجة الحياة الراكدة فانداحت حوله الدوائر: وحد كريم بينها وبين صديقه الميت، فأحبها دون امل في اخذ وعطاء، احبها لأنها كانت عنده تجشيد هزيمته امام الحياة، وهي بدورها تعاطفت
اصداء الواقع العراقي من الخمسينيات الى الثمانينيات
نشر في: 12 مايو, 2010: 04:20 م