طالب عبد العزيز
تعقّدت الحياة بما لا يُتصَور. هناك تليّفٌ قبيح في جملة العلاقات الانسانية، ولم يعد المرءُ على فطرته وبراءته، وتدنت القيم الى حد مريع، حتى أنَّ أحدهم وصم البراءة بالغباء، ولا أظنُّ أننا، وبحكم توغلنا في السنين، أصبحنا نرى الحياة على الشؤم والقبح هذين، أبداً،
إنما هناك متغير وجوديٌّ ومنعطف كونيّ طرأ على الحياة في المعمورة بعامة، أو لنقل في شرقنا العربي المسلم، وربما تتضح الصورة أكثر في العراق. في البقعة هذه، حيث تستعر الشمس أكثر فصول السنة. مرضٌ عضالٌ أصاب أواصرَ النفس الانسانية، ثمة غربة في الروح والجسد والضمير والاشياء كلها، بات الشفاء منها مستحيلاً.
لا أريد أن اتحدث عن غربة الإنسان في صراعه اليومي داخل الدوائر المغلقة( الاقتصاد، السياسة، الدين، الأمن..) فهذه مما لا حلول لها، لكن، ما يشعرنا بالغربة هذه، وعلى سبيل المثال: أننا لم نعد نسمع في ما حولنا عن أناس غرباء، وحيدين، لا أحد لهم، لا عشيرة ولا أهل، ..غالبية من حولنا معروفون بانسابهم وأصلابهم، وجوه تشبه بعضها، ومجاميع بشرية يفاخرون بعضهم بعدد البنادق التي لديهم، فهم يحملونها صائلين في جولات الحق والباطل، وهم مستعدون لكراهيتك متى شاءوا، يخرجون في الصباحات ملثمين، ويعودون في المساء ملثمين أيضاً، ولا أعني اللثام اليشماغ وهي تلف على الوجه، إنما، هناك طبيعة وسلوك ملثمان، لا يفصحان كثيراً، هناك من يتوحش داخلك أزاءهم، من يحرضك على مغادرة الطمأنينة.
مشهدٌ عفويٌّ آخر خرج من حياتنا، فقد انقصى زمن كنا نرى فيه امرأة وحدانية، لديها بنت جميلة، او صبيٌّ جميل يسارع أبناء المحلة لمساعدتهم،هكذا لوجه الله، واختفى زمن كنا نرى فيه شخصاً مختلفاً عنا وليس من ديننا وطائفتنا وقوميتنا، لكنه فقير وأمين وشريف، همّه ما يكسبه بالحلال، تتركه الناس كما يحب أن يعيش حياته، هناك ريبة من الإنسان الوحيد، الذي لا يتنفس من رئة القطيع، ليست ريبة إنما شكوك، تطعنه في أعزِّ ما عنده، بدأت أستشعر مثل هذه وتلك، منذ اختفاء صورة البستان القريب، المثقلة أشجاره بالرطب والعنب والرمان، يحرسه فلاح بسيط يكد وتعب ويغادره الى بيته ساعة الظهيرة، فيما يترصده الصبية المشاغبون ليدخلوه، مستمتعين بطعم الفاكهة، لقد اختفى الرجل المتسامح، مثلما أختفى الصبية المشاكسون، فقد سوّر الرجل بستانه، وجاء ببندقية، ولأن الصبية كبروا على الأسوار، صاروا أطول منه، فقد ظل يستشعر الخوف منهم، وفي غفلة من الزمن أخرى، هجر بستانه فتصحرت الغابة، ماتت أشجارها، هناك من يعبث بمنظومة الشغب والتسامح أيضاً.
أحدثت الحياة خللاً جوهرياً في التركيبة الاجتماعية والفولكلورية، فقد صارت بنت الجيران لا تترك دراجتها الهوائية تحت شجرة النارنج في الحديقة، وفقد الصبيان براءتهم، صاروا لصوص دراجات محترفين، وما عدنا نرى المرأة التي تنسرح عباءتها أمام المقهى، فتنكشف عن ذراعين بيضاوين، عن عنق اتلع رقيق، هناك خلل في الإعلان عن مكامن الجمال، كذلك لم يعد مشهد الطلبة الذاهبين الى المدرسة يسرُّ أحداً، فقد اختفت الشرائط الملونة، وانتهى عصر التنانير القصيرة، والقمصان البيض، باتت المدرسة مطلوبة لعشيرة آل ... أما المعلم فلم يعد أنيقاً، ظلت أناشيد الصباحات الباردة تخنفي شيئاً فشيئاً، منذ أن ألصقوا صور الطواطم والمسوخ على أسيجة المدارس