لطفية الدليمي
لو تبصّرنا في التوصيفات المتعددة والمتجددة للثقافة في عصرنا هذا لوجدنا أن توصيف البروفيسور تيري إيغلتُن للثقافة مع توصيفات أخرى في الفصل الأول من كتاب " الثقافة " بأنها : ( القيم والعادات والمعتقدات والممارسات الرمزية التي يوظفها الناس في الحياة )،
وقد تعني أيضا ( الطريقة الكليّة المعتمدة في الحياة ويمكن أن تعني الشعر والموسيقى والرقص والرياضة والممارسات الدينية )؛ غير أن بعض الشعوب تحصر مفهومها للثقافة في ( التراكم الفني والنتاج الفكري ) وهو ما دأبت عليه العادة عندنا لدى الحديث عن الثقافة والمثقفين باعتبارهم فئة متخصصة بهذين النتاجين .
غير أن الثقافة، ولكي تكون شأناً طليعياً ومؤثراً في المجتمع يتعدى توصيف العادات والتقاليد والممارسات الرمزية لدى الشعوب، لابد لها أن تنطوي على الجوانب الابتكارية وعندها سنتوقف عند توصيف (التراكم الفني والذهني ) وهو مايمثل فكرة التطور والابتكار وليس تكرار العادات والمعتقدات .
الثقافة بهذا المعنى الأخير تعمل على إحداث تطور معين في الشخصية الانسانية وفي نمط حياتها ووعيها، وتساعد المرء الذي يعمل على اكتساب رأسمال معرفي على الارتقاء والتطور الروحي والعقلي ويحقُّ له حينها أن يسمى كائناً ثقافياً ؛ بينما يرى بعض الباحثين - بخاصة بعض علماء الاجتماع - في هذا المرء كائناً انتفاعياً يبحث عن أساليب تعينه على البقاء وبالتالي فهو كائن ذو عقل إقتصادي بالضرورة كما يقدمه السوسيولوجي إدوارد أوزبورن ويلسون .
ينتقد كبار الانثروبولوجيين وفي مقدمتهم " مارشال سالينز " فكرة الانسان ذي العقل الانتفاعي التي يروج لها علماء الاجتماع أمثال ويلسون ، مبيّناً ( أنّ للثّقافة سلطة قاهرة في تشكيل أفعال النّاس ولها اليد الطّولى في تشكيل تصوّراتهم ) . يعمل سالينز ويكتب ويحاضر لدحض فكرة الإنسان الاقتصاديّ وإثبات فكرته التي توصل إليها بعد بحوث ميدانية واسعة في مجتمعات مختلفة حول خضوع المثل الثّقافيّة وأنساق التمثّل لعقل ثقافيّ يصنعه الإنسان بنفسه ، وهو ما يحدّد حاجاته المادّية وسواها من الحاجات الروحية والذهنية بما فيها التواصل الاجتماعي .
يطرح سالينز مفهومه عن كون الانسان كائناً ثقافياً ويعارض فكرة دوكنز حول موضوع ( الجين الاناني )، كما يرفض فكرة الحتمية الجينية وهي الموضة الشائعة في وطنه أمريكا " فهذه الحركة تزعم إرجاع كلّ شكل من الأشكال الثّقافيّة إلى طبيعة إنسانيّة شاملة قائمة على المصلحة الذّاتيّة وروح التّنافس". يقول سالينز خلال حوار حديث له : " ظهر الإنسان العاقل منذ مائتي ألف سنة عبر سياق ثقافيّ سمح بتجدّد البشريّة . فلئن كنّا تطوّرنا بيولوجيّاً فإنّ ذلك تمّ تحت ضغط الانتخاب الثّقافيّ ، أي الحاجة لتثقيف حيوانيّتنا ".
يمكننا في ظل هذا التوصيف للانسان الثقافي القول بأن التوصيف الذي أورده ( تيري إيغلتُن ) في كتابه ( الثقافة ) وهو ( قد تعني مفردة الثقافة القيم ،العادات ،المعتقدات ،الممارسات الرمزية التي يوظفها الرجال والنساء في الحياة ) ينطبق على مجتمعاتنا التي تتحكم بها القيم القبلية الموروثة والعادات المكتسبة المتراكمة والمعتقدات الدينية، والعقلية الخرافية التي تمارس الطقوس الرمزية، وإلى جانب هذا التوصيف الثقافي لإنسان مجتمعنا نجد أن مفهوم عالم الاجتماع " ويلسون " الذي يرفضه سالينز حول الكائن ذي العقل الانتفاعي يتجاور في مجتمعنا مع الكائن الثقافي ويندمج معه مشكلا صورة شاذة مركبة من الكائنين: السوسيولوجي الانتفاعي والانثروبولوجي الثقافي، وهي صورة شاذة وخارجة عن أي توصيف سوسيولوجي وإناسي تشكلت كالمسخ في فوضى الصراعات التي تعصف بمجتمعنا .