شكري الحسن*
لم يستطع فرحان مظلّوم، 48 سنة، المعلم في إحدى مدارس منطقة شمالي البصرة المتوترة، الذهاب إلى عمله بعد تلقيه تهديداً بالقتل من أفرادٍ لعشيرة متخاصمة مع العشيرة التي ينتمي إليها، وذلك على إثر نزاعٍ دامٍ متوارثٍ ترجع جذوره إلى خلاف على تقاسم المياه.
"نرث تركات الآخرين وأخطائهم دائماً.. هنا يتخاصمون على أتفه الأمور، وحين ينشب الخصام لا صوت يعلو على قرقعة السلاح"، يقول مظلّوم.
هذه واحدة من عشرات النزاعات العشائرية المسلحة التي تشهدها بعض المناطق الساخنة في جنوبي العراق بين فينة وأخرى. ولا تتواني العشائر عن حمل السلاح والاقتتال فيما بينها كوسيلة للهيمنة أو الحصول على النفوذ، وتأتي المياه في مقدمة تلك الموارد الطبيعية التي تحاول العشائر الظفر بها، لاسيما أن المناطق الجنوبية تشهد جفافاً قاسياً متكرراً بسبب تناقص تدفق المياه من نهري دجلة والفرات، زيادة الطلب على المياه، التغيرات المناخية المتطرّفة، والإدارة السيئة ، وقد تشكّل موجات الجفاف هذه تهديداً جدياً للاستقرار المجتمعي الهش في ظل الافتقار إلى سياسات حكومية رشيدة لإدارة ملف المياه والثروات الطبيعية الأخرى.
مفارقة الوفرة والقحط
لم تعش بلاد الرافدين العطش والقحط في تاريخها مثلما تعيشهما اليوم. فعلى الرغم من وقوع العراق في مناخ شبه مداري جاف، ساهم نهرا دجلة والفرات بتدفق ما يزيد عن 50 مليار م3/ السنة من المياه العذبة، فضلاً عن امتلاء الخزان المائي الستراتيجي عن آخره. ووفقاً للسجلات الهيدرولوجية كان معدل حصة العراق من المياه العذبة خلال المدة 1933-1971 تبلغ 79.6 مليار م3/ السنة، وذلك اعتماداً على بيانات وزارة الموارد المائية. ويشير المستشار في وزارة الموارد المائية عون ذياب إلى "أن هذا المعدل تناقص تدريجياً بعد تدشين سد كيبان التركي في العام 1974، لتبلغ خلال المدة الواقعة بين 1972-1998 حوالي 71.3 مليار م3/ السنة، ثم تدنى ليصل إلى 47.14 مليار م3/ السنة فقط خلال المدة الأخيرة 1999-2018". ويواجه العراق، منذ آخر فيضان عارم في العام 1988، سلسلة متوالية من موجات القحط والجفاف التي تعصف به بشدة.
التغير المناخي يقلب الموازين
تساهم عوامل عديدة في تفاقم الجفاف وندرة المياه في العراق، منها تشييد سدود عملاقة على منابع نهري دجلة والفرات من قبل تركيا وعلى نهري الكرخة والكارون من قبل إيران، ناهيك عن سياسات مائية داخلية زادت الواقع المائي سوءاً. ويشير المتخصص في التغيرات البيئية أحمد خفاجة من جامعة البصرة إلى "أن تجفيف الأهوار العراقية في تسعينيات القرن المنصرم من قبل نظام صدام حسين، أدى إلى تقلص مساحة هذه المسطحات المائية بنسبة 90٪، وفقد العراق تالياً قرابة 45٪ من وارداته المائية".
ولانحباس الأمطار وازدياد التبخر الناتج عن ارتفاع درجات الحرارة تأثير كبير في ندرة الموارد المائية في العراق الذي يعد من البلدان المتأثرة جداً بالتغير المناخي. ويرى الباحث في علم المناخ بجامعة البصرة أحمد الحسّان بأن "للتغير المناخي دور مباشر في زيادة تكرار موجات الجفاف في العراق بشكل واضح"، مؤكداً على أن البلاد "شهدت موجات جفاف واضحة خلال الدورة المناخية الأخيرة (30 سنة الماضية) لم تكن معروفة من ذي قبل". ويشير تحليل البيانات المناخية بحسب الباحث إلى ظهور ثلاث موجات جفاف متتالية (من العام 1998 الى العام 2018) في العراق ناجمة عن انحباس الأمطار. وطبقاً للباحث في جغرافية الموارد المائية بجامعة البصرة صفاء الأسدي، فإن "كمية تبخر المياه السنوية في العراق تصل إلى نحو 8.5 مليار م3/ السنة، وهي كمية تهدد فعلياً الاحتياطي المائي العراقي المتراجع أصلاً".
هذا وقد أدى انكماش خزين المياه خلال العامين 2017 و 2018 إلى مستويات مقلقة قاربت 12 مليار م3 فقط بحسب وزارة الموارد المائية، إلى اتخذها سلسلة إجراءات استثنائية لتأمين مياه الشرب مثل فرض قيود صارمة على توزيع الحصص المائية على المزارعين، ناهيك عن القيام بحظر زراعة بعض المحاصيل الكثيفة الاستهلاك للماء مثل الأرز والذرة الصفراء.
التسلّح في سبيل المياه
يعد هذا الواقع المائي المرير سبباً من أسباب الصراعات الاجتماعية (القبلية) في جنوبي العراق. ففي شمالي البصرة، على سبيل المثال، اندلعت نزاعات عشائرية مسلحة خلال العقود الأخيرة تعود جذورها إلى أزمة المياه، وكانت الحصيلة مقتل وإصابة العشرات. ويرى صافي موالي، 60 سنة، أحد وجهاء المنطقة، بأن "نسبة النزاعات العشائرية التي تسببها ندرة المياه تشكّل حوالي 10٪ من مجمل النزاعات الدائرة، لكنها قابلة للزيادة إذا ما واجهنا مزيداً من الجفاف في المستقبل". ويتحدث المهندس الزراعي علي سالم، وهو موظف في دائرة زراعة البصرة، عن نشوب نزاعين عشائريين متوارثين في منطقة النشوة (شمالي البصرة) لم يُحلا لغاية الآن. كما وحصلت نزاعات في منطقة السيبة (الجزء الجنوبي لشط العرب) بسبب بحث قطعان الجاموس المملوكة للنازحين من الأهوار عن الغذاء والماء في منطقة لا تُعد ملكاً لهم ولا يحق استخدامها لرعي قطعانهم فيها، الأمر الذي أدى الى الصدام بين الطرفين.
وتشهد مناطق أخرى في محافظة ذي قار وميسان نزاعات وصدامات مشابهة بسبب قلة المياه وسبل الاستحواذ عليها من قبل العشائر في جنوبي العراق. فعلى سبيل المثال، وصلت النزاعات في منطقتي هور الجبايش التابع الى محافظة ذي قار وبلدة المُدّينة التابعة الى البصرة الى قتالٍ مسلحٍ بين عشيرتين جراء تراجع مياه الأهوار خلال مواسم الجفاف. ويتحدث الحاج صالح مهدي، 68 سنة، في محافظة ميسان، عن قتال معروف اندلع بين عشيرتي السواري والسواعد في إحدى السنين العجاف من ستينات القرن المنصرم بسبب الجفاف والبحث عن المياه، فأفضى ذلك إلى خصومة دامية بين الطرفين تنازعاً على الحصة الإروائية لمزارع الرز المتجاورة التي تمتلكها كلتا العشيرتين. وعلى الرغم من توجه بعض أبناء الريف في الآونة الأخيرة نحو الوظائف المدنية والحكومية في المدن، فإن نزاعاتهم المتوارثة انتقلت معهم هي الأخرى.
تالياً، يبدو أن ثمّة ترابط واضح بين تصاعد وتيرة النزاعات العشائرية وسنين الجفاف؛ ولذا يمكن الاستنتاج أن استقرار المجتمعات المحلية في جنوبي العراق سيشهد مزيداً من التصدع بالتزامن مع تغير المناخ الذي تقاسيه المنطقة وسيادة ظروف الجفاف المتطرفة.
تحديات المستقبل وحلول واعدة
إزاء هذا الوضع البيئي والاجتماعي المتأزم الذي يخيم على جنوبي العراق وفي ظل احتدام الصراع على المياه، من المرجح أن يكون المستقبل محفوفاً بالمخاطر، الأمر الذي يقتضي مبادرات جديدة من شأنها إيجاد الحلول ووضع حدٍ للتوترات الاجتماعية. وحسب المهندس الزراعي علي سالم، "فإن البقاء على ممارسة الأساليب التقليدية القديمة في الري المفرط وإغراق المزروعات، ستفضي إلى هدر كميات مائية هائلة نحن بأمس الحاجة إلى كل قطرة منها في الوقت الراهن". ومنعاً لهذا الهدر غير المبرر، لابد من التشجيع على اللجوء إلى تقنين المياه عبر تحديث منظومات الري القديمة في العراق بأخرى جديدة كالرش والتنقيط وغير ذلك. ويرى الخبير الزراعي علاء البدران، أن "نجاح الزراعة الجافة في العراق يعتمد على إمكانية إعادة تدوير مياه البزل المهدورة، وذلك بعد تصفيتها من الأملاح والملوّثات في محطات معالجة خاصة، أو على الأقل الإفادة منها في مجال الاستزراع السمكي وسقي المحاصيل العالية التحمّل للملوحة". وهنالك جهوداً حثيثةً يبذلها الباحثون العراقيون مؤخراً لتجريب مدى كفاءة مياه الصرف الصحي في الإرواء الزراعي، سعياً لمواجهة الشُح المتوقع في المياه العذبة.
ولكي تتكامل أركان النجاح، لابد أيضاً من الإصغاء لرأي المجتمعات المحلية؛ يرى بعض الوجهاء الاجتماعيين ضرورة توخي الحكمة كسبيل للشراكة في المياه بدلاً من التناحر عليها. ويقترح صافي موالي توعية الفلاحين ومساعدتهم على تعلّم أساليب الزراعة الحديثة وتقنين المياه عن طريق عقد ورش إرشادية وتدريبية متخصصة، سعياً لإنهاء النزاعات والحفاظ على السلم الاجتماعي.
ما لم تسارع السلطات إلى التخفيف من آثار الجفاف والتغير المناخي بجديةٍ، لن يتوقف أبناء العشائر الريفية عن التنازع على تقاسم المياه المتناقصة، وربما سيتخلون في آخر المطاف عن الزراعة نهائياً ويبحثون عن مصدر آخر للرزق تاركين الريف وراء ظهورهم. ثمّة قلق متصاعد حالياً من توجههم صوب المدن عند اشتداد اليأس بهم؛ وتشكّل أية هجرة من هذا القبيل أعباءً إضافيةً على البنى التحتية والخدمات العامة الحضرية، التي تعاني في الأساس من التهالك والتقادم والفشل.
*هذا الموضوع تم اعداده بالتعاون مع FPU و CLINGENDAEL INSTITUTE
* (أكاديمي وباحث بيئي، العراق)
جميع التعليقات 3
د. صفاء عبد الامير الاسدي
لقد أجاز وأحسن مؤلف هذا المقال الحيوي ومن الان نحتاج الى سياسية مائية واجراءات تتعامل مع واقع شحة المياه
علي نعمة
احسنت المقال دكتور شكري و المفروض من الدولة تتخذ احراءاتها .. و ما ننسى دور التعلم في الحد من النزاعات
علي البدري
مقال جميل يجمع بين الاسلوب الادبي والاسلوب العلمي بما اعطى جمالية وعلمية في آن واحد وهذا ليس بغريب على اكاديمي متميز كدكتور شكري إبراهيم الحسن