TOP

جريدة المدى > عام > القوس الكبير : مفردة باريس العمرانية الباذخة

القوس الكبير : مفردة باريس العمرانية الباذخة

نشر في: 5 يوليو, 2020: 06:44 م

د. خالد السلطاني

معمار وأكاديمي

عندما أعلن في عام 1982 عن تنظيم مسابقة معمارية دولية بباريس لتصميم نصب "قوس النصر" كأحد أهم مجموعة المشاريع العمرانية الكبرى التى تبناها وقتذاك رئيس الجمهورية الفرنسي الاشتراكي "فرانسوا ميتران" (1916 -1996)،

لتمجيد الاحتفال بمرور قرنين على الثورة الفرنسية الكبرى، التي ستصادف 1989؛ فقد استقر الرأي، حينها، بأن يكون مغزى وغاية نصب "قوس النصر" هذا، معبّراً عن "انتصارات" الانسانية التى حققتها في الشأن المعرفي مؤخراً، وإن لا تعيد (ولا تذكر!) تلك المفردة العمرانية الاثار النصبية لـ "اقواس النصر" المعروفة، والمشيدة، عادة، لتمجيد الانتصارات العسكرية والحربية. وقد وقع الاختيار على ضاحية "لاديفونس" La Defense غرب باريس، الضاحية التى بدأت تعتبر بمثابة المركز التجاري والمالي والسكني الجديد في العاصمة الفرنسية، لتكون موقعاً جديداً لنصب قوس النصر هذا. 

اختارت لجنة التحكيم عند نهاية المسابقة في عام 1983، التصميم المقدم من قبل المعمار الدانمركي "يوهان اوتو فون سبريكلسين" (1929 - 1987) Johan Otto von Spreckelsen بكونه "الفائز الاول" في تلك المسابقة المعمارية الدولية إياها، التي اشترك فيها 484 مكتباً استشارياً من أنحاء العالم المختلفة. بيد إن اللجنة المشرفة على تنظيم المسابقة، وجدت نفسها عقب هذا الاختيار، أمام <معضلة> تمثلت في "حيرتين"! الأولى كمنت في مفاجأة شخصية الفائز المغمور، الذي لا يعرف عنه الكثير؛ والثانية بسبب الارباك الحاصل لعدم "رد" مكتب الفائز عن الاتصالات الهاتفية العديدة التى تروم اللجنة بها "إخباره" عن ذلك الفوز العظيم! وتبين لاحقاً، من اتصالات أجرتها اللجنة المشرفة مع سفارة الدانمرك في فرنسا، بأن صاحب المكتب المتواضع، أقفل مكتبه وتوجه نحو "دارته الصيفية" الريفية في إحدى الجزر البحرية لقضاء إجازاته السنوية ـ كما يفعل في العادة كثر من الدانمركيين–. وبأنه "قطع وراءه" جميع وسائط الاتصال (وسائط ذلك الزمن الثمانيني) معه بغية التمتع بالإجازة مع عائلته على انفراد ولوحدهم. وقد اضطر بعض أعضاء اللجنة المشرفة على المسابقة أن يسافروا جواً الى الدانمرك، ثم يبحروا بزورق خاص للعبور الى تلك الجزيرة لمقابلة المعمار وإبلاغه بالنبأ السعيد: حيازة تصميمه على المرتبة الاولى في المسابقة الدولية! 

لا أحد خارج الدانمرك، في السابق، كان قد سمع باسم هذا المعمار، بل إن اسمه، في وطنه ذاته لم يكن يحظ بسمعة كبيرة بين المهنيين، عدا الوسط الاكاديمي الذي عمل به "سبريكلسين" بمهنية عالية. ولكن دعونا قبل الكلام عن "المعمار"، أن نتحدث عن "العمارة" عن تلك المأثرة التصميمية، التى اجترحها هذا المعمار المغمور؛ وقبل ذلك كله، عن قيمتها العمرانية!

لم يكن اختيار موقع "قوس نصر الإنسانية" (كما كان يطلق على المشروع الذي عرف عالمياً بـ "القوس الكبير" Grande Arche) مجرد صدفة أو قراراً عرضياً، وإنما أريد للمكان أن يكون "نهاية" المحور التخطيطي الأهم في العاصمة الفرنسية؛ ذلك "المحور التاريخي" الذي يبدأ شرقاً عند قصر اللوفر، وينتهي عند الموقع المختار للقوس الكبير الجديد. ويعود الفضل الكبير لتحديد و"رسم" بدايات هذا المحور الى "اندريه لو نوتر" (1613 – 1700) Andre Le Notre، المعمار الفرنسي ومنسق الفضاءات الخارجية Landscaper المعروف، هو الذي أرسى أحد أهم سمات "الباروك" الفرنسي، من خلال تكريسه منظومة المحاور الرئيسة الواضحة في الفضاءات المفتوحة وفي التخطيط الحضري. وقد ابدع لنا منظومة "الحدائق المنتظمة ذات الطابع الهندسي"، التى تتسم بتخطيط هندسي صافٍ، مع التأكيد على التماثلية وانتظام التكوين. . كان نشاطه الحدائقي مؤثراً، وتعتبر أعماله في فرساي، الضاحية الملكية من الأعمال اللافتة في تاريخ العمارة الفرنسية والأوروبية. وقد حظي برعاية الملك "لويس الرابع عشر"، الذي لطالما كان ينادية بـ " صاحبنا: لو نوتر الطيب!" كما إنه صمم مشاريع حدائقية خارج فرنسا وفي انكلترة، تحديداً، مثل "بارك سان جيمس" و"بارك غرنينتش" على سبيل المثال. 

يبقى عمل "اندريه لو نوتر" المهم يكمن في تخطيط وتصميم الفضاءات الخارجية لـ "حدائق التويلري" Jardin des Tuileres ومجاوراتها التي شرع بها سنة 1640؛ هي التي – لاحقا - ستمثل فكرة بدايات "المحور التاريخي" Axe Historique. والأخير هو محور أساس في التخطيط الحضري لباريس باتجاه شرق – غرب ، ويتكون من سلسلة معالم، وأبنية، وشوارع واقعة على امتداد خط مستقيم، يبدأ كما اشير من قصر اللوفر وحدائق التويلري وتنتهي عند موقع "القوس الكبير" في "لا ديفونس". وأثناء أعمال "لو نوتر" على حدائق التويلري وربطها مع حدائق الشانزليزيه، كانت ثمة مجموعة من مبان متفردة شغلت، وقتذاك، أجزاء من الموقع، وتمت إزالتها زمن لويس الخامس عشر، ومن ثم شًرع بانشاء ميدان فسيح ومفتوح، بدلاً منها على الطراز الكلاسيكي صممه سنة 1755 المعمار"آنج جاك غابرييل" (1698 – 1782) Ange-Jacques Gabriel دعي بـ "ميدان لويس الخامس عشر". (واعتبر، ولا يزال، الميدان الأوسع في العاصمة الفرنسية، حيث قدرت ابعاده بـ 140× 245 متراً، وللمقارنة فان مقاسات "مسجد المتوكل" (849 م.) في سامراء العباسية بالعراق <المشغول، شخصياً، بالبحث عن عمرانها في الوقت الحاضر> هي 159× 239 متراً). لكن الساحة تم تغيير اسمها أثناء الثورة الفرنسية عام 1789، ودعيت بـ "ميدان الثورة". وفي هذا الميدان تحديداً، تم اعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة "ماري انطوانيت"، ولحق بهما فيما بعد، إعدام خطيبا الثورة اللامعين "روبسبير" و"دانتون". و ما لبث أن تم تغيير اسم الميدان مرة آخرى، سنة 1795 الى "ساحة الكونكورد (الوفاق) Place De la Concorde، والذي ما زال يحتفظ الميدان بهذه التسمية لحين الوقت الحاضر. وفي سنة 1806، قرر نابليون أن يشيد قوس نصر "الكاروسيل" Carrousel، في التويلري؛ تمجيداً للانتصارات العسكرية التي خاضتها جيوش نابليون في السنين الماضية. و تزامنا مع قراره في انشاء "الكاروسيل" وفي ذات السنة، فقد أمر بتشييد "قوس نصر" أكبر من هذا القوس مرتين، (يبلغ ارتفاع الكاروسيل 19 متراً فقط)، ليمجد هو الآخر الانتصارات النابليونية العسكرية، وذلك في ساحة <الايتوال> "النجمة" Arc de Triomphe de l'Étoile التي هي امتداد للمحور التاريخي. بيد أن البناء في الايتوال، تأخر كثيراً وتم إنجازه فقط في سنة 1836، إبان حكم "لويس - فيليب الأول". وقد بلغ ارتفاعه نحو 50 متراً. في سنة 1970، أُبدل اسم الساحة من اسم "النجمة" الى اسم "ساحة ديغول" على اسم الجنرال ورئيس الجمهورية الفرنسية "شارل ديغول" ( 1890 – 1970). لكن امتدادات "المحور التاريخي" او كما يدعوه بعض الفرنسيين بـ " درب النصر" Voie Triomphale؛ لن ينتهي عند ساحة ديغول، وإنما يستمر في امتداده عبر "جادة الجيش العظيم"، مروراً بساحة "ماييو" Porte Maillot، ومستمراً عبر "جادة شارل ديغول"، وعابراً جسر "نيي" Pont de Neuilly، وصولاً الى ضاحية "لا ديفونس" حيث الموقع المختار للمعلم الجديد! جدير بالذكر أن جميع "معالم" المحور التاريخي، تقع على امتداد خط مستقيم، عدا موقع مبنى اللوفر الذي ينحاز عن ذلك المحور بـ 6 درجات، وكذلك موقع القوس الكبير، الذي هو الآخر ينحاز موقعه عن استقامة ذلك المحور بـ 6 درجات أيضاً، لاعتبارات إنشائية تتعلق بطبيعة مواقع أسسه التي تعارضت مع مواقع انفاق المترو وحركة القطارات تحت الارض. 

اصطفى المعمار "يوهان اوتو فون سبريكلسين" شكلاً هندسياً صافياً "لفورم" مبناه <القوس الكبير>، متمثلاً في شكل مكعب أجوف من الداخل و مشطوب بصورة مائلة، لكتلة السقف ولكلتا الضلعين الأمامين والخلفين. وجاءت أبعاده بطول نحو 108 أمتار وبعرض 112 متراً وبارتفاع 110 أمتار. يخترق فضاء القوس الداخلي الاجوف "سحابة" ضخمة معلقة، مشغولة من شبكة " تفلون" Teflon وفقاً لنظام تركيبي قشري Shell Construction، ومرفوعة بواسطة حزمة أسلاك "كابلات" Cables فولاذية مثبتة بالجدران وفي أرضية المكعب، يعتبر البعض بان وجودها بمثابة مفردة فنية قائمة بذاتها، بينما يجادل الآخرون من أنها تبدو وكأنها شكلاً غريباً عن سياق التصميم. يفسر المعمار وجودها بكونها ليس فقط تسهم في إدراك فضاء المكعب بصرياً بصورة مواتية، وإنما تسهم في تقليل سرعة قوة التيارات الهوائية فيه، ثمة مجموعة من المصاعد الشفافة المعمولة من الزجاج وضعت في أحد أطراف الفضاء الأجوف، تنقل الزوار الى سطح المبنى لمشاهدة حدث بانورامي نادر لمدينة باريس! وثمة سلالم بمدرجات رخامية عديدة بطول عرض المبنى تقود الى أعلى "ارضية" المكعب، وتخدم أيضاً كمقاعد للجلوس والتمتع برؤية نماذج العمارة المجاورة والاحتفاء بها. تم توظيف فراغات أضلاع المكعب وأحياز سقفه لمتطلبات وظائف أنشطة لمكاتب حكومية وإدارية وخدمية وترفيهية. 

يمكن للمرء أن يدرك، بسهولة، سمتيّن اثنتيّن أساسيتّين في عمارة "القوس الكبير"، وهما صفاء الشكل المبتدع وهندسيته العالية، ولعل اهتمام المعمار وسعيه الواضح الى تكريس هاتين السمتين في الحل التكويني، هو الذي يرسخ من تميز المبنى ويمنحه فرادتهأ معلوم أن "فورم" المبنى، تبعاً لذلك، جاء مختلفاً عن سياق مجاوراته، وإذ ينزع المعمار الى تأكيد هذا الاختلاف، فأنه يسعى بهذا وراء أن يكون مبناه "حدثاً" معمارياً استثنائياً، يستجيب لبواعث بناء "القوس" وتحقيق أهدافه من جهة، ومن جهة آخرى، يطمح لتبيان نوعية مقاربته التصميمية التى اشتغل عليها طيلة سنين عديدة سابقة، إذ دأب "يوهان سبريكلسين" على توظيف شكل "المربع" وتمثلاته في التصاميم النادرة التى قام بتصميمها. وبهذا اكتسب "صوته" التصميمي نبرة خاصة ميزته عن مجرى ما كان يصمم في بلده الدانمرك إبان عقدي الستينيات والسبعينيات. وقد اتَّكأَ لجهة زيادة حدة تلك النبرة، وبخلاف كثيرين في عموم اسكندينافيا، على تراث المعمار "لويس كان" (1901 -1974) Louis I. Kahn ومقاربته التصميمية المعروفة وفلسفته المعمارية، فيما يخص مهام "الشكل" المعماري وقيمة "التصميم"! وليس المجال هنا مناسباً لعمل "توازيات" بين أسلوب "لويس كان" ومحاولات "يوهان سبريكلسين"، لكن الناتج النهائي لأعمال الأخير وأسلوب صياغة تكوينات تصاميمه المميزة، تشي بتلك المرجعية "الكانوية" الى فضلها المعمار الدانمركي. 

في الضاحية التي اقيم فيها بمدينة "كوبنهاغن" ثمة مبنى لكنيسة صممها "سبريكلسين" مابين 1972 – 1974، ذات لغة تصميمية مميزة، وتميزها نابع بالأساس من خصوصية أشكالها المعتمدة على هندسية صافية سواء في المسقط أم في الواجهات أم في كتلها المكعبة! وقد أضاف الطابوق الأحمر الذي غلف واجهاتها وضوحاً وقوة شديدتين في تأكيد نزعة الهندسية الصافية للأشكال المعتمدة ، إنها تبدو ضمن بيئتها المبنية المجاورة معلماً خاصاً وحدثاً معمارياً لافتاً، والأمر ذاته يمكن أن نراه في تصميم كنيسة أخرى صممها "سبريكلسين" سنة 1979 -1981 وهي "كنيسة ستاونهولت" Stavnholt Kirke بالقرب من مدينة "فارم" بالدانمرك ، إذ تحضر في عمارتها ذات "المسحة" الهندسية الشفيفة المُتكئـَة على تمثلات أشكال المربع الهندسي المنتظم. وارى، شخصياً، في عمارة الاخيرة، امكانية واقعية لتاثيرات محتملة على صياغة الحل التصميمي لمشروع "القوس الكبير"، لجهة تمجيد الهندسية وتوظيف شكل المربع وتمثلاته في صياغة الفورم المبتدع؛ خصوصاً إذا أخذنا في نظر الاعتبار قصر الفترة الزمنية الفاصلة بيت التصميمين، وأرْجَحيّة استمرارية <نكهة> عمارة "كنيسة فارم" ومزاجها التصميمي على أعمال مشروع "القوس الكبير" (1982). 

وفي العموم، فان عمارة "القوس الكبير" بصيغتها التصميمية المختزلة و"مفردات" تكوينها المختصرة، وشكلها الهندسي الواضح، أضافت الكثير الى بيئة ضاحية "لاديفونس" المبنية، حيث تقع. وأمست منذ افتتاحها عام 1989، إحدى معالم باريس الشهيرة ومفردتها العمرانية الباذخة. جدير بالذكر، إن الأعمال الإنشائية لتنفيذ "القوس الكبير" بدأت سنة 1985، وقد أشرف المعمار الفرنسي "باول أندريو" (1938 – 2018) Paul Andreu على إتمام المشروع بعد أن ترك المعمار الدانمركي "يوهان سبريكلسين" الإشراف على تنفيذ "القوس" سنة 1986 بسبب مرضه، ومالبث الأخير، أن توفي بعد ذلك بوقت قصير سنة 1987.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram