عدوية الهلالي
كلما اشتدت الأزمة المالية ، يطالبوننا بالتقشف ..فمن أكثر تقشفاً منا ؟ ..من الذي اعتاد شد الحزام ورضي بتناول الخبز المحشو بنشارة الخشب أو برادة الحديد أو نخله من قمل الحبوب ليتجرع طعم العفن فيه ، ومن الذي عود طفله الرضيع على ازدراد الخبز المنقع بالماء لعجزه عن توفير الحليب له ،
ومَن التي أبدعت في تحويل الملابس القديمة عدة مرّات لتناسب أولادها ، وهل هنالك عروس رضيت أن تتزوج ببدلة عرس مستأجرة وحلي كاذبة وتقيم في منزل يشاركه فيها العديد من الأفراد غير العروس العراقية ، ومن هو الشاب الذي وضع شهادة تخرجه على الرف وهرع الى الأسواق ليحجز له مكاناً بين الحمالين أو باعة البسطيات ..بل من هو المريض الذي انتظر أن يحصل على علاج للسرطان أو دور في غسل الكلى فلم يجد معيناً في المستشفيات وسبقها الله الى رحمته بالموت ؟..ألا يندرج اضطرار المدرس الشريف الى إعطاء دروس خصوصية والموظف النزيه الى مد يده للرشوة ضمن بند التقشف ؟..فلولا تقشفهم لما اضطرتهم الحاجة الى مخالفة مبادئهم ..نحن شعب مبتلى بالتقشف ..حتى عندما ازدهرت حياة الموظفين منا وارتفعت رواتبهم ، صار عليهم أن يقاوموا اشتعال الأسعار في الاسواق ، ووجدت الرواتب لها عدة مزاريب لتتسرب منها فهنالك القروض الكبيرة التي تقضم نصف الراتب أو يزيد لمجرد أن يحصل الموظف على سقف يملكه ، وأجورالدروس الخصوصية الباهظة ليساعد أبناءه على الحصول على شهادة علمية ،وغيرها كثير من متطلبات الحياة الضرورية وليست الكمالية فالأخيرة لاتناسب الفقراء وذوي الدخل المحدود ، والمصيبة أن حملات ( التقشف ) الحكومية تبدأ دائما باختطاف الراتب وتقييد ذلك ضد مجهول حتى إشعار آخر ، أو قضم قطعة كبيرة منه في أحسن الأحوال ..
هنالك حقيقة أود قولها لكم ولاتقولوا إنها فلسفة غريبة ربما افرزتها كآبة الحجر الصحي.."نحن مسرفون جداً ، ولولا اسرافنا لما طولبنا بالتقشف "؟...سأقول لكم كيف ..لقد أسرفنا في خوفنا وإذعاننا لديكتاتورية طال أمدها حتى بلغت مرحلة تدجيننا ، ثم أسرفنا في ثقتنا عندما هرعنا الى صناديق الاقتراع لأكثر من مرة لننتخب من أسهم في خراب بلدنا ونفوسنا ، كما أسرفنا في مشاعرنا عندما صدقنا أن التظاهرات يمكن أن تجد حلاً لأزماتنا فدفعنا بمئات الشباب الى المحرقة ، وأخيراً أسرفنا في التعامل مع وباء الكورونا على أنه كذبة ومازلنا ندفع الثمن أرواحاً غالية تتساقط كل يوم بالعشرات حتى صار كل منا ينتظر دوره ..مازلنا أيضاً نسرف في متابعة وسائل الإعلام وتصديق ماتسوقه لنا من سموم ومايطلقه لنا المسؤولون من وعود زائفة أملاً في انجلاء الغمة عن امتنا التي ابتليت بالاسراف الذي قاد الى التقشف !
اتراني أسرفت في محاولاتي ربط الأمور ببعضها لأحصل على نتيجة واحدة وهي إننا سنبقى ندور في ساقية العجز الى مالانهاية وسنظل نحمل صخرة ( سيزيف ) وتظل محاولاتنا العبثية تبوء بالفشل في كل مرة ؟
اعذروني ، حاولت أن ازين مقالي بزخارف الأمل والتفاؤل ككل مرة ، فلم أجد منها مايمنح الموظف الراتب المتأخر والفقير لقمة العيش والخريج فرصة العمل والعاجز طوق النجاة ..فاعذروني ..