TOP

جريدة المدى > عام > رثاء: سلام على حبيبي

رثاء: سلام على حبيبي

نشر في: 12 يوليو, 2020: 07:10 م

منى شبر

 

من دونك 

وحيدة حتى الثمالة. حزينة حتى الثمالة .

ها أنا استطعت العيش من دونك، وها أنا ابذل جهدي لأكتب لك وعنك ولأقنع

نفسي أنه ربما للحياة معنى من دون أنفاسك، وأحيانا أقنعها أنك مازلت جنبي وإني سأكلمك حالما أنتهي من الكتابة أو ربما سأستيقظ غدا لأجدك قد ضجرت من القبر

وعدت لي.

ازور الأماكن التي ارتدناها معا وأحاول أن افسر للناس الذين لم يسمعوا برحيلك

سبب غيابك وكيف أنك تعبت من الضوضاء واللغط وذهبت لتستريح هناك. وكل مرة اخبرهم يفاجئني الخبر وكأني اسمعه لأول مرة .

منذ رحيلك وأنا أدور في عالم مليء ﺑﺄضداده رغم فراغه.

الشمس هذا اليوم تلف الكون بحنان كشمس يوم رحيلك.. وقفت عند ﺑﺎب مستشفى مدينتنا الجميلة مرات عدة. أحاول أن استجمع شجاعتي وازور اماكنك الأخيرة فلربما أجدك متسكعا هناك لألمسك وأتنفسك .

كيف لك أن تموت في هذه المدينة الجميلة يا حسين؟ وكيف أخترت أن تموت في

غرفه رقمها 16 كرقم بيتنا الجميل السعيد وكرقم الغرفة التي ولد فيها حبة قلبنا "تيم الله"؟

في ذلك اليوم، وفي الممر المفضي الى غرفتك التي استبشرت برقمها خيرا، وأنا أحث الخطى كصباح كل يوم مسرعة للقائك. احسست بملاك الموت يسرع امامي جذلا. لامسني

جلبابه الفضاض الأبيض برقة وحذر. حاولت أن أسبقه لأعترض طريقه وأمنعه من انهاء الحياة قبل ان تنتهي، ولم أستطع.

فتح ﺑﺎب الغرفة ﺑﻬدوء ودخل عليك مبتسما كم من شمس ترجلت ﺑﺎكية حينها؟ وكم من نجمة خرت حزينة يائسة وقتها؟

بعدها... رأيتك ممددا بسلام بين الشراشف البيضاء. تعلو وجهك ابتسامة ملائكية ساحرة

وكأنك والموت في عناق ووﺋﺎم. 

سلام على ملاذ روحي.

الشمس غمرت الغرفة بدفء الأحياء وحنانهم وأنت ممدد ببهاء بين الشراشف البيضاءكقديس ﺑﺎبلي.

سلام على آخر وطن.

ملائكة واموات يحيطون بسريرك جذلين لوصولك متحمسين لسماع حكاياتك ...

سمعوا عنك الكثير وارتقبوا وصولك. وأنت مبتسم سعيد تسحرهم بصوتك الرخيم وأحاديثك

التي لا يُمل منها...سيحبونك فأنت الأجمل وأنت الأعمق. ّ

أي رحيل هذا؟ وأي جحافل حزن استوطنتني؟ ِ

لم اصدق أنك سترحل ﺑﻬذه السرعة بعد عْشرة دامت أكثر من 45 سنة..كنا صورة للبهجة والحياة لكنك غدرت وغبت على غير عادتك. أنت الغياب وانا الرماد والحنين والالم.

دموعي تحجرت وصوتي مذبوح... عالق بين الفم والحنجرة ليمزق رئتي. أغلقت النافذة لعل روحك الفارة لبارئها تضل الطريق وتعود لي. عاتبت الله والملائكة، وبجزع عصي على الفهم رفعت ساعديك وطويتهما حول عنقي، واستنشقت رائحتك بقوة أحاول أن احفظها بذاكرتي ورئتي...وهمست ﺑﺄذنك: لن أدعك تبرح دمي ياغائبي، خذ بيدي كما فعلت دائما ودعني أولد للمرة الأخيرة. 

روحي تتلوى مختنقة بغيابك ولن أجد هواء يشبه انفاسك لا ستنشقه وأحيا، بل انا

من دونك لا اقوى على تحمل شيء ولا حتى انفاسي . 

منذ عرفتك في بداية السبعينات وأنا أولد من جديد مرات ومرات. أيامنا وأعوامنا

كانت ثورة وثروة من الجمال والحب والمعرفة والتعلم..كنت بوتقة من العلم والمعرفة انهل منهما من دون ارتواء وأولد مجدداكل يوم.كنت بداية حلمي وكل وعيي وكنت الختام .

كنت تقول لي إن البشر الوان واصناف وليس ﺑﺎلضرورة ان ننتقي من هم على شاكلتنا فالمعرفة والعلوم موجودة حتى عند أكثر خلق الله تفاهة والحكمة نستقيها أحيانا من فم أكثر خلق الله جنونا، والجمال نلمسه في قلب اكثر الوجوة قبحا.

المسافة التي تفصل بيتنا عن السوبرماركت تقطعها مشيا بمدة لا تزيد عن النصف ساعة ولكنك كنت تعود محملا ﺑﺄلوان القصص والأحاديث عن ناس التقيتهم برحلتك القصيرة هذه. ذاكرتك خزين لا ينضب من القصص عن عجزة وشباب وطبيب وزﺑﺎل ومدرس وفلاح وعاطل وخريج سجون وكأنك الجاحظ يا حسين،،كنت بحوراً من المعرفة

لا تعرف الجزر أبداً وإنما تمد وتمد وتروي ولا تغرق . 

وبعد هذاكنت بوتقة للصفاء والنقاء أتحمم ﺑﻬاكلما عدت الى بيتنا لأتخلص مما علق

بي من شوائب البشر.كنت معي ﺗﺄخذ بيدي وتعمدني وترشدني لأولد من جديد نقية.

كنت جميل المحيا ومع الجمال سكينة وعزة نفس ووقار. دمث الأخلاق، رخيم الصوت، عفيف النفس واللسان، طيب القلب، وفي، حديثك ساحر وضحتك تُنشي القلوبكأنغام الوتر.

تقدس المعرفة والعلوم وتحملهما في تواضع ووداعة. المسطرة الوحيدة التي تقيس ﺑﻬا البشر هي صدقهم ونبلهم.

لا تمقت شيئا قدر مقتك للكذب والرياء والاحتيال والتملق. 

عشت هادﺋﺎ ونبيلا ورحلت ﺑﻬدوء وصمت نبيل كصمت العازفين عن الضجيج.

رحلت وصمتت أفكارك الجميلة التيكانت تسمع الأصّم وتطربه.

انا اعرف اني معك اخذت من السعادة حصتي بل أكثر بكثير لكني الآن وقد رحلت ستغطيني الشوائب وتغير ملامحي وسأموت من دون ولادة جديدة وسأبقى يتيمة وسأحسد الموتى المحلقين حولك الذين يولدون من جديد ﺑﺄحاديثك ومعارفك.

تيم يتحدث عنك بدون انقطاع وأسمعه يكلمك بصوت مسموع عن كل كتاب يقرأه أو كل خبر يسمعه..كل ما فيه هو بعض منك يا لون ورود حديقتي وعطرها.

لم تطلب منه أن يقرأ ويتثقف ولم تجبره على أي فكر أو عمل.كنت تمارس أشياءك

التي تحبها أمامه بعفوية وصدق فتعلم منك أن يكون الكتاب ملازماً له والمعرفة هي إيمانه ودينه بدون تشنج أو تزمت. كنت تقول بفخر وحب اعطيناه خير ما عندنا فأصبح خيراً منا.

وأنا ماذا أفعل الآن يا حسين؟ وﺑﺄي أرض سأجدك ياكلي؟ وأنت ليس لك مثيل

وليس عنك بديل. ما من شيء حولي يشبهك وأنا كطفل ضاع في زحام ويبحث عن وجه أمه في كل الوجوه.

هذا الألم، هذا الحزن لا أستطيع أن أفارقه. لا أريد الانتقال منه. هذا الألم يرافقني

منذ اللحظة التي افتح فيها عيني الى اللحظة التي اغمضها..أحس براحه برفقته وبت أعرفه وأخاف أن يغادرني. لأن اللحظة التي سيتوقف فيها ألمي سأعلم أنك رحلت وغادرتني..

قبرك تحت شجرة بلوط ضخمة فوق تلة تطل على أرض ساحرة، السماء قريبة جداً

منك وكأنها بين الله وقبرك كلام...يا ترى ماذا تفعل أنت وأصحابك الموتى بكل هذا الجمال وهذا البهاء؟

أزور قبرككل يوم وآخر...آتي اليك ولا أصل وأقف عند قبرك ولا أستطيع أن ألمسك أو أعود لأيامنا.

أقف عند رأسك وأحدثك كثيراً..وانا يا صديقي لا أحب أن أقلقك في نومتك الأخيرة وأنت تنام هناك غريباً دون وسادتي، ولكني تعيسة من دونك يا حلمي وكلما أتذكر لك جملة ابتسم وأقول ما أجملك يا حسين...وعزائي الوحيد أنك لن تمرض بعد اليوم ولن تموت ولن تشيخ وأني سألتقيك يوما هناك وسأجدك جميلاً كما كنت وستتسع روحي خارج قلبي المتعب لتولد معك مره أخرى جسداً سعيداً.

في الأشهر الأخيرة بدأت شاشه الكومبيوتر تتعبك والكتابة ترهقك ولأنك كنت

تحب الناس والاصحاب والحياة والحكايات، رفضت أن تتركها وتترك عملك وتنزوي الى ركن وتتلاشى، فأصبحت أنا عينك وقلمك أقرأ لك كل المقالات التي تبعث لك واكتب ما تمليه علي من ردود.

قلت لك مرة إن مقالك الأسبوعي بدأ يفقد الموسيقى التي كانت تنبعث من بين طيات سطوره منذ أن بدأت أصابعي تسطر ما تحمله شفتاك، لأن أصابعك الجميلة ما عادت هي التي تلمس الحروف وتلونها وتلاعبها وتراقصها.

وﺑﺎلرغم من ألمي ولوعتي عليك الا أني كنت سعيدة بدوري هذا لأن بصري وسمعي

كانا يشهدان ولادة أفكارك قبل أن يراها الملأ كنت كالقابلة التي تتلقف المولود في لحظه الإعجاز الرﺑﺎني قبل أن تطأ قدمه العالم الجديد، وتحمله بحذر وحب وانبهار ليراه الجمع

المنتظر. 

قدري بقيت وحيدة أسافركل يوم بين أوراقك وكتبك وأشيائك الجميلة أبحث بين

طياﺗﻬا وسطورها عن وجهك لألمسه أو صوتك لأسمعه ... ثم أجلس لأنتظر الاحلام واستجديها لقاء .

مع السلامة يا حبيبي وفي أمان الله

ملاحظه أخيرة:- نسيت أن أدس نظاراتك في جيب كفنك عندما قبلتك قبلتي

الأخيرة ولست جنبك لأقرأ لك ماكتبت.. فعسى أن يكون هناك من يعينك على قراءة ما سنكتب.

وينشيستر 20-1-2019

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram