TOP

جريدة المدى > عام > من أجل العدالة الاجتماعية.. هل يجب أن يكون الفن ساحة معركة؟*

من أجل العدالة الاجتماعية.. هل يجب أن يكون الفن ساحة معركة؟*

نشر في: 12 يوليو, 2020: 07:14 م

علي النجار

في ديترويت من ولاية مشيغان الأمريكية وحيث نقلتنا السيارة من منطقة حضرية الى أخرى بائسة غير بعيدة عن مركز المدينة

حيث العديد من البيوت الصغيرة التي بعضها متداعية أو مهجورة بل حتى أنقاض محترقة والمكتظة بساكنيها المختلطين الذين غالبيتهم من السود الأمريكان والتي نحن قصدناها، رغم كوني مرّرت سابقاً في زيارات عديدة لمشيغان بهذه المنطقة من ديترويت، لكن بحذر لرداءة إسفلت الشوارع ومطباته والتي عرفت أسبابها كون سكان هذه المنطقة لا يدفعون ضرائبهم كما المناطق الغنية، بل وحتى دوريات البوليس هنا نادرة فالخدمات على قدر الدفع.

قبل أن نصل مركز المدينة بعدة بنايات وجدنا أنفسنا ضمن تقاطع شارعين(أم سي دوجال و هونت) بمساحة منطقتهما المكتظة بالبيوت والخرائب والفضاءات المتروكة، كانت المفاجأة تنتظرنا، عشرات البيوت تحولت لمشروع فني مجتمعي أو بيئي مدني، وهو سواء في معناه، مع اكتظاظ الفضاءات المتروكة أو المهملة التي لم يُجز حتى عشب بعضها، كذلك الأرصفة بعلاماتها المرسومة التي تشير الى أهداف وعناوين اجتماعية لها علاقة بواقع حال قاطني هذه المنطقة وأحلامها، كذلك ما يستغنى من سقط متاعها وما تستهلكه البيوت، أنقاضه أدوات أو مخلفات حوادث وحطام الدنيا، لم تكن هذه الأرصفة والفضاءات أو الساحات المهملة في هذه المحلة لوحدها هدف هذا المشروع الفني، بل تسلقت الأعمال الفنية المختلفة الوسائط والمخلفات التي أعيد تأهيلها فنياً، أو لم تعد، المباني والأسيجة بشكل عشوائي أو مقصود، كان المنظر الذي يفاجئ المشاهد لأول مرة، كأنه غابة ميكانيكية بأجزاء أخطبوطية مهترئة أو منسّقة أو مبعثرة أو مجمّعة بإتقان، أجساد مستلّة من سيارات محطمة أو مجاري أو لعب أطفال أو ماركات معدنية أو خشبية، حطام متعدد المصادر أعيد انشاؤه بما يناسب حجم هذا الفضاء المتشعب المسالك وزواياه العديدة. 

كنت أعتقد أنه عمل جماعي ربما انشأته شبكة فنانين متعددين، أو حتى مجموعة هواة لضخامته، لكننا بعد أن ترجلنا بالقرب من نقطة بدايته لم نجد غير شخص تصورناه دليله وما أن رآنا حتى أشار الى صندوق تبرعات بقربه . هذا الرجل هو(تيري كايتون) نفسه الذي أنشأ المشروع وهو الذي أدامه وهو واحد من فناني التعبيرية الأمريكية الجديدة ومن سكان المنطقة ، بما أن مشروعه غير مدعوم بشكل كامل وغير ربحي فصندوق التبرعات هو الذي يديم أوده. 

عن هانت ومشروعه التركيبي الذي أطلق عليه(مشروع هايدلبرغ):

قابلنا هانت كما ذكرت جالساً في بداية الشارع أو المحلة(العمل الفني) ببساطته وهو يشير لنا لصندوق التبرعات مثلما أشار لضيوف أجانب آخرين، لـ هانت هذا أعمال معروضة في متحف مشيغانن ومتاحف أمريكية عديدة، هو أيضاً من جماعة الرسوم على الجدران، درس في كلية الدراسات الإبداعية في ديترويت، في عام (2009) حصل على دكتوراه فخرية في الفنون الجميلة، من أقواله التي تفصح عن هدفه(أريدك أن تفكر - فكر حقًا! إن فني هو دواء للمجتمع، لا يمكنك إشفاء الأرض حتى تشفي عقول الناس). إذ كان شفاء عقول الناس وراء هذه الملحمة الخلفية(نسبة لخلفية المنازل) ولو أنه هنا أمامها وحولها!.

قبل ثلاثين عاماً من الآن بدأ مشروعه التجميعي التركيبي بالقرب من بيت جده لينمو ويكبر وليحتل مساحة الحي عبر كل تحولات هذه الأعوام وليتحول الى متحف فني(داخلي ـ خارجي) ليمسح عن الحي ما لحقت به من إهانات سابقة، إذا ما علمنا بأن هذا الحي كان سابقا بؤرة للجريمة وعصابات المخدرات والتي اكتوت عائلته بشره مثلما الكثير من ساكنيه وبشكل خاص الشباب منهم.

ليس غريباً أن نعرف أن حافز كايتون في الشروع بالتنفيذ كان بسبب أنه فقد أحد أبنائه في هذا الوسط الموبوء، وكمسعى منه لتغيير طبيعة المنطقة ولفت الانتباه الى الأفعال الفنية بدل الإجرامية وإدخال المنطقة بمنحى ثقافي وسلوكي مغاير، هذا لا يعني أن مسعاه التجميعي بحجمه الكبير والمدهش لم يمر بصعوبات خلال الأعوام التي استغرقها إنشاءه في هذه البيئة المدينية المتعبة ، بل لقد تعرض لأكثر من هجوم وحرق وتدمير بفترات متقطعة حتى وصل الأمر في الثمانينيات الى صدور أمر بإزالته بساعات قليلة من قبل سلطة الولاية في عام(2008)، لكن يبدو إن مثابرته وقتاله من أجل استمراره أدى الى اكتسابه قناعة اجتماعية ورسمية بما يفعله وأحياناً بالتشارك وأُناس المحلة التي لا يزال بعضهم يتضجر من أعداد الزائرين المتزايدة والتي وصلت الى نحو(00000 2سنوياً). 

وأنا أتنقل ما بين عمل فني سواء كان بيتاً أو تجميعاً أو رسوماً حائطية أو علامات أو منشورات لمستهلكات على الأسيجة أو احتفاء ببيت تعرض للحريق، تبادر الى ذهني بأني أتنزه في غابة اصطناعية بمفاصل ميكانيكية أو معمل لإعادة الإنتاج مبعثرة أحشاؤه، لقد حدثت المعجزة كما خطط لها الفنان وأحدثت تتغيراً ملموساً في الطبيعة السلوكية للقاطنين هنا، إضافة الى تحول حيّهم في نفس الوقت الى محجة للزائرين والسواح، وليحظى برعاية السلطة المحلية معنوياً ومادياً، بعد أعادة النظر في ستراتيجيتها لما يخدم أحياء هذه المنطقة الحيوية والتي من الممكن أن تشكل امتداداً معمارياً حضرياً ومركز المدينة، لكونها لصيقة له، من خلال تبنيها مؤخراً لمشروع تخطيط أحيائها وإمكانيات استثمارها مادياً مما أدى الى أن تصعد أثمان عقاراتها ولينتبه السكان الى هذا التحول وإمكانية استثماره لصالحهم.

المخلوقات المهملة :

هل تعني لنا شيئاً مخلفاتنا التي هجرناها بعد استنفاد أغراضها أو غرضنا منها، وهل من الممكن إعادة الحياة للنفايات؟، بمعنى ثانٍ هل من الممكن إحياء الذكريات المهملة أو الميتة؟، هل من الممكن إعادة صياغة كل ذلك من جديد؟. وإنْ تكن الجدة لا علاقة لها بوظيفتها أو هيئتها الأصلية، كثيراً ما تعلق بذهننا ذكريات الطفولة، إنْ كانت ألعابها التي لهونا بها باهظة أثمانها أو رخيصة، فهل هو وعي جديد، رغم كونها ذهبت مع الريح مع أيامها، التي غالباً ما تندثر تحت طبقات اللاوعي، فهل هو وعي جديد ما خاض في تفاصيله العملية الفنان البيئي( تيري كايتون) وهل للمهملات من روح لوحدها، أو هي الروح التي زرعها الفنان في أحشائها لتبقى شاخصة تثير انتباهنا، بعد أن كانت مجرد نفايات غالباً ما نركلها بأقدامنا انتقاماً من عدم صلاحيتها، لقد عمل الفنان هنا جهده تجميعاً وتوليفاً ونحتاً ورسماً مبرمجاً وعشوائياً، لم تكن الرسوم كما يتبادر للذهن تشخيصاً، بل هي مجرد دلالات أو إشارات لفعل تعبيري لحظوي مناسب لسطح باب السيارة المخلوع أو قطعة خشب السقف المخلوعة أو حتى دمية طفل عتيقة أو أحذية مستهلكة أو إرث عائلة مستغنى عنه. مع صياغات خطية كما التأكيدات المتناثرة على كونك الشخص الفاعل(أنت) كتابة على أبواب وشبابيك البيوت والجدران والأرصفة. أنت، أنت بيدك التغيير! .

ثمة سلسلة أعمال، كدس غريب لا يخطر على البال كيف تم جمع تفاصيلها، لكنك لو دققت كثيراً لبانت كما أحشاء منازل عديدة اختلط حابلها بنابلها، تذكارات ميلاد جد، أو حفيد، أدوات منزلية منقرضة وعتيقة، كدس أخر من بقايا حوادث السير مدون عليها حوادث ورسوم وتذكارات تمت لألعاب شباب المنطقة برسومها الحائطية، ساحة معشوشبة مسيجة منثور على أسيجتها أحذية مختلفة غالبيتها غريبة الشكل والماركة ومؤثثات أخرى. . حانوت خشبي بني على عجل بألواح مخلعة كمكتب للأدلاء بأصوات الانتخابات، تشكيلات لنفايات معدنية مختلفة الأغراض على هيئة مسلّات أو أهرام أو سلاسل ممتدة. إعادة طلاء البيوت العديدة على امتداد الشارع برسوم ورموز وكتابات تشير الى فعل الإرادة والنفي والاغتراب وما يشابه ذلك. بيوت مهجورة تحولت الى منحوتات افتراضية مع دمجها بالأشجار والشارع ورصيفه ضمن الفعل الفني التركيبي، وأنت تسير تكتشف ما وراء هذه الأفعال الفنية من هدف ومغزى، إن لم تكن في أعمال المنشآت فبالكلمات الشعارات والإشارات وحتى في الموشور اللوني للرسوم الذي تصاحب عادة ثقافة السود الأمريكان، هذا المشروع الذي تعرض في عام ( 2013) الى 12 عملية إحراق لا يزال صامداً، ولا يزال يتلقى المكافآت المختلفة الرسمية بين فترة وأخرى. 

ونحن على أهبة المغادرة بعد أن غصنا في دهاليز هذه المتاهة واجهتنا عربة تفرغ حمولتها من سقط متاع البيوت أو الورش القريبة، ليستمر المشروع الأفعواني في النمو. أو لتستبدل بعض الأعمال الفنية(وأنا أقول هنا أعمال فنية ما دامت خاضعة للمسة كايتون، هذا الإنسان البسيط والمكافح من أجل إعادة الاعتبار لبني جنسه ولبيئته المدينية من خلال متحف هواءه الطلق هذا. وللهواء هنا إن كان نسيماً أو عاصفة أو نثار ثلج دور في تحولات هذه الملحمة بما يتركه من آثار بيئية عليها، بعد انتهاء زيارتي ومغادرته نهائياً بقي عالقاً في ذهني البيت الذي يتوسط إحدى متاهاته، البيت الذي لم يبقَ سوى مدخنته الآجرية وبعض من أطلال متداعية يحيطه صمت الموت وعلاماته، بلاغة زمن بحاجة الى إعادة ترميم.

إشارة:

قبل عدة أعوام، في زمن القتل العشوائي بالمفخخات التي راح ضحيتها ما لا يعد من أناسنا في أكثر من مدينة عراقية، اقترحت أن يصار الى تجميع بقايا السيارات المفخخة أمام وزارة الثقافة مع قوائم بأسماء الضحايا وزمن التفجير وتفاصيل أخرى تخدم المشروع، مثل تغطية واجهة الوزارة بقماش مناسب أسود حداداً على أرواح الشهداء، ليرى العالم حجم الكارثة، لكن للأسف من يهتم برسالة الفن الاجتماعي ومديات صداها سواء في محيطها الاجتماعي والإعلامي المؤثر، ولتذهب شواهدنا هباء مع الريح.

(*) ـ العنوان مستل من استشهاد للفنان( تيري كايتون) بعمله.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram