ستار كاووش
ما أريد كتابته اليوم قد يبدو بسيطاً جداً، لكن رغم ذلك أعتبره أساساً وحافزاً لحياتي التي تمضي بعيداً، هنا في شمالي العالم. إنه يتعلق بالصداقة، هذه الكلمة السحرية التي تربطنا بالآخرين، والتي علينا أن نجيد تكوينها وأيضاً صياغتها، بل صناعتها بإتقان.
ورغم انها أعظم دروسنا في الحياة، لكن الناس يتمسكون بها بطرق مختلفة، وهم يفعلون ذلك وكأنهم يمسكون بحبل إرجوحة تحمل على متنها هذه الصداقة، فمنهم من يطوحها بعيداً حتى يفقد من يستقر عليها صوابه، وآخر يهزها ببرود ودون اهتمام يذكر، لتظل تراوح في مكانها دون مشاعر ولا أحاسيس، وثالث يعرف كيفية الإمساك بحبلها جيداً، وهو يترنم معها كما تُعزف الموسيقـى وبإيقاع متناغم، الصداقة تشبه زهرة صغيرة تستقر في مزهرية ملونة بواحدة من زوايا البيت، وعلينا الاعتناء بهذه الزهرة اليانعة وسقيها، كي تنمو وتكبر ويشرق لونها الحقيقي للعيان، وذلك لا يكلفنا سوى بعض الاهتمام والمحبة واللطف، فالصداقة لا تأتي وتكتمل بشكل عفوي وعارض وتبقى الى الأبد، بل علينا أن نضع عليها توقيعنا الشخصي ونجتهد في تكوينها كما تصنع الحلوى اللذيذة ومثلما ترسم اللوحات الجميلة.
تجمعني بالهولنديين صداقات رائعة ومتشعبة ومع كل المستويات، من الرسامين الى سائقي الشاحنات ومن الفلاحين الى الشعراء ومن أصحاب الحانات الى المتقاعدين، صداقات ومعارف عديدة ومختلفة ربطتني بالناس هنا. لكن مع غمرة هذه الصداقات هناك مجموعة صغيرة تتكون من أربعة أشخاص هم الأقرب اليَّ، ومع هؤلاء الأربعة أعود لطفولتي ومرحي وعفويتي التي تنسيني إياها أحياناً مشاغل الحياة. وغالباً ما نقوم نحن الخمسة برحلات وزيارات ولقاءات ومشاهدات. سنوات طويلة من العذوبة والتواصل، بل التماهي والانغماس بالصداقة، تماهي جعلنا نطلق على المجموعة اسماً معيناً بين فترة وأخرى، وحسب ما يقع بين أيدينا من تسميات تشير الى بعض الوقائع والتفاصيل المشتركة بيننا، فالأسم الأول كان (فرسان الريح) وقد أخذناه من اسم مسرحية عظيمة شاهدناها معاً وتحمل ذات الأسم، ثم جاء اسم جنود البرتقال، بعد حضورنا العرض الموسيقي (الجندي البرتقالي)، أما الأسم الأخير الذي أطلقناه على المجموعة منذ أكثر من سنة، فهو (الأوزّات الطليقات)، وهذا جاء من خلال نوع من النبيذ يحمل ذات الأسم، كنت قد عثرتُ عليه بالمصادفة في أحد المتاجر، وعرفتهم به، ليصبح النبيذ المفضل لدينا ولا تكتمل لقاءاتنا الآن بدونه، هذه اللقاءات التي يتحول كل شيء فيها الى مرح وضحك وانتصار للمحبة وإنتشاء بالصداقة، وكأننا نعيد صياغة مسلسل (الأصدقاء) لكن بعمر أكبر وشكل مختلف، فليس هناك تأخر بالمحبة، والتأخير الوحيد الذي يمكن أن يحدث، هو حين لا نحب أبداً.
والأوزات الطليقات تتكون من الشقيقتان هيكا ويانكا والصديق فيخر وزوجتي أليس وأنا. نجتمع كل مرة في بيت أحدنا لنسقي هذه الصداقة ونديمها، أو نذهب معاً لرؤية مسرحية في شمالي البلاد أو شرقها، نزور معرضاً هنا ونحضر حفلة موسيقية هناك، نستأجر كرافانات في واحدة من جزر هولندا في بحر الشمال، ونعيش أجواء مهرجانات الموسيقى التي تقام كثيراً في البلد، أما في افتتاحات معارضي فجماعة (الأوزات الطليقات) هم أول الحاضرين، وآخر الخارجين طبعاً، لنمضي بعدها معاً لتكملة السهرة في المرسم. أنا من يبتكر وجبات الطعام عادة، وأفكر في إعداد بعض الأطباق الصغيرة التي تفترش مائدة السهرة، بينما تعطي هيكا نصائحها الجميلة حول الطعام الذي يخلو من السعرات الحرارية، فيما تبتسم يانكا بطريقتها الجميلة ومرحها المحبب، وهي تؤكد أن الطعام لذيذ وهو مناسب لهذا النوع من النبيذ، أما فيخر فيكتفي ببعض التعليقات الصغيرة وهو ينظر الى كأسه الفارغة، وأليس تجاهد في كيفية توضيح أن الأكلات الشرقية هي التي يجب أن تزين المائدة، ووسط كل ذلك أسرح بخيالي بعد أن أتأكد أن الحياة تستحق أن تعاش، خاصة بين هذه الأوزات المدهشات.