TOP

جريدة المدى > سينما > إنْ شئتَ كما في السماء .. تصالُح الحداثة العربيَّة

إنْ شئتَ كما في السماء .. تصالُح الحداثة العربيَّة

نشر في: 15 يوليو, 2020: 06:57 م

عبد المنعم أديب

فيلم "إنْ شئتَ كما في السماء" تجربة سينمائيَّة نحتاجها لا في مجال السينما العربيَّة وحسب، بل في مجال الفكر العربيّ الرحب، أو الأفق العربيّ. إنَّها تجربة تقدم نفسها لا في نطاق ضيق -كما يُمكن أنْ تُؤوَّل أيضاً- بل تجربة مُحاكية للعقل العربيّ في رحلته الحديثة والمُعاصرة تجاه إحدى أكبر همومه وقضاياه وهي أراضيه المُحتلَّة، وتجاه ذاته كذات، وذاته كمُقابل لذات الآخر الغربيّ .

إنَّه فيلم معقد لا لصعوبته كما المعتاد؛ لكن يكمن تعقيده في بساطة عرضه للنتائج التي توصَّلتْ إليها تجربة صانعه، تلك البساطة التي تؤكد أنَّها تجربة أناة وصبر وتأمُّل مستفيض.

ولعلَّ هذه البساطة التي في الفيلم تخبرنا بأنَّ صانعها قد اختبر كلَّ ما قدَّم لنا من قبل طويلاً، وها هو الآن يقف في موقفاً لا في موقفه ليُلقي إلينا بزُبدة ما توصَّل إليه. ومما يُعزِّز تعقيد الفيلم هو مقاطعته للنمط السائد الذي اعتاد عليه الفنّ السينمائيّ -العربيّ والعالميّ- في الدراما الواضحة البيِّنة أمامنا في المشاهد، والحوار الذي هو الأداة العظمى للمُتلقِّي العاديّ ، فها هي التجربة تقاطع هذا التفاعل الواضح والدراما البيِّنة، وتقاطع الحوار لتقول لنا: كفانا حواراً إنَّ الحال بيِّن دون حوار، بل دون وجود أناس تتحاور أصلاً ، هذه العناصر الثلاثة هي التي جعلتْ الفيلم معقَّداً بعض الشيء. وبغضّ النظر عمَّا يبدو من سمت التعقيد دعونا نقترب من التجربة شيئاً فشيئاً حتى نتمكَّن جميعاً من إدراك سياق الأحداث والمعاني.

الفيلم الذي ألَّفه وأخرجه ومثَّله "إيليا سليمان" لا يُحكى؛ أيْ لا يقبل فعل "الحَكي"، بل يقبل فعل "التفسير" و"التأويل" (هرمنيوطيقا). بل إنَّ مشاهدته -وهو الفعل الأساس الذي يصنع من أجله أيّ فيلم- لا تُجدِي إلا مع إعمال العقل في تفسير وتأويل ما يجري أمامك، لكنْ قبل تجربة تأويل نكمل صورة ما أمامنا بملاحظة عدة أمور: منها أنَّ الفيلم نادر الحوار، ولم يستغلَّه إلا في مشاهد معدودة، ولم يقُلْ بطل الفيلم -الذي يظهر في كل المشاهد إلا المشهد الأول- إلا جُملتين: "أنا من الناصرة، أنا فلسطينيّ".

ومنها تكوين الكادر في الفيلم؛ حيث حرص "إيليا" أن يظهر بطله في كل مشاهده في منتصف الكادر بالضبط ، وموقع المنتصف هو موقع يدلُّ على المُباشَرَة والمواجهة وهو أقرب لموقع المراقب منه إلى موقف صاحب المشهد الدراميّ. وهذا يُعزِّز فكرة أنَّه يُلقي إلينا نتائج تجربته، كما يوحي في بعض المَشاهد بأنَّ الصورة تبتلعه ، كذلك حرص الأستاذ "إيليا" على التركيب الثنائي لا الثلاثي لعمق الصورة؛ حيث يظهر في غالب المشاهد هو وخلفيَّة الأحداث.

بناء فيلمنا هذا يعتمد على "وحدة المشهد". لإيضاح الأمر نستشهد بالشعر العربيّ القديم الذي يُذاع في نقده جُملة "وحدة البيت" أو "البيت وحدة القصيدة". أيْ أنَّ كلَّ بَيْت من الأبيات يدلُّ على معنى مُنفرد، فضلاً عن معناه في السياق الكليّ للقصيدة. وهذا المبدأ لا يعني أنّ العمل -قصيدة أو فيلماً- مُفكَّك -كما يعتقد بعض نقَّاد الأدب- بل يعني أنَّ كلَّ مشهد له مغزى ومعنى قويّ كفايةً، وكذلك من الممكن استخدام كل مشهد في إبراز معنى حتى لو لمْ يعرف مُشاهد المشهد أنَّه جزء من فيلم، كما نتداول كثيراً من أبيات الشعر منفصلةً عن قصيدتها.

مبدأ وحدة المشهد لا يعني أنَّ الفيلم مُفكَّك، ولا يعني أيضاً أنَّ هذا الفيلم خالٍ من القصة والأحداث؛ كما قد يعتقد البعض ويصف الفيلم بأنَّه مجموع "لوحات تمثيليَّة" أو "اسكتشات تمثيليَّة". بل له قصة وأحداث بدليل أنَّ الفيلم ذو بداية ووسط ونهاية، وأنَّ الدراما في الفيلم تتطور وصولاً إلى مشهد النهاية. لكنَّ النموذج التأويليّ أو الجهد التفسيريّ غير المُكتمل للعمل هو الذي يؤدي إلى اعتبار هذا الفيلم مجموع مشاهد أو لوحات.

ويستمدُّ الفيلم جزءاً من بنائه من الأغاني والأشعار العربيَّة الفصحى والعاميَّة التي يجمعها أنَّها أنتجتْ عندما كان العرب أقوياء عن اللحظة الراهنة، وكذلك أنَّها ذات قبول من الذائقة العربيَّة العامة -وسيكتمل دورها بالتضاد مع المشهد الأخير-. أيضاً يستمدّ الفيلم بناء حالته المعنويَّة من الكوميديا التي أتت من روح السخرية المريرة في المشاهد، وكوميديا الحركة الاعتياديَّة.

كل هذه المسائل المُغايرة للمُعتاد جعلت هذه التجربة السينمائيَّة مُباراة للتفسير والتأويل؛ فأمام المُشاهد الكثير من الأدوات التعبيريَّة ينوِّع بينها المخرج ليُرسل له دلالات معنويَّة من هنا وهناك. هذه التجربة بثرائها جعلت التفسير القائل بأنَّ الفيلم عن الشتات الفلسطينيّ صحيحٌ، لكنَّها تركت أيضاً أشياء فوق فكرة القضيَّة الفلسطينيَّة، أشياء تجعل التجربة أعمَّ من حديث غير مُعتاد عن قضيَّة فلسطين، بل تحوله إلى الفكر العربيّ ورحلته وهذه هي الوجهة التأويليَّة التي اخترتها، فسأختار مشاهد مؤثرة أو زبدة ما تدلّ عليه المَشاهد لأعرض وجهة تفسير.

أوَّل ما يسترعي انتباهنا هو البطل أو التشكيل الذي كان عليه البطل .. إنَّه رجل "عربيّ" الأصل يلبس طوال الوقت لباساً أقرب إلى لباس "الفرنجة" أو الأجانب فها هو يعتمر قبعة الخواجات، ويشمِّر كُمَّيْ البذلة على موضة كانت قد أتت من الغرب، هذا من حيث المظهر الخارجيّ؛ أمَّا الداخليّ فالبطل يصوِّر شخص "الحداثة العربيَّة" بكل ما فيها، ففي مشهد ذكيّ للغاية تدقّ أجراس صلاة الكنيسة فلا يجد البطل من فائدة في دقّ الناقوس إلا أنَّه قد عرف أنَّ الساعة قد بلغت العاشرة فضبط ساعة البيت عليها.

كما أنَّه الشخص الذي ملَّ القديم وقرَّر أنْ يتخلَّص منه؛ يطالعنا هذا أيضاً في تعبيرات وجهه وفعله تجاه بقيَّة أدوات أمِّه أو أبيه الذي قد توفي، ونظرته للتمثال (الأيقونة) الدينيَّة -ولها مقام في الديانة المسيحيَّة- كأنَّها شيء قديم ينظر إليه بغير اكتراث، بل يسعد بإبعاده عن حياته. وهو أيضاً الشخص الذي نراه لا يكترث بالقيم العربيَّة أو الدينيَّة فيقف أمام قبر والده أو والدته المُتوفَّاة -لا يوضح المشهد شيئاً عمَّنْ مات أصلاً لتعميق الأثر بغضّ النظر عن الشخص الذي توفي- وسرعان ما يملُّ ويدخِّن السيجارة غير مُبالٍ بمقام الموت الذي يحيط به.

كما أنَّه الشخص الذي يتعجَّب من السلوك العربيّ القديم مثل سلوك الجار الذي يأتي إلى بيته ويتصرِّف في شجرة الليمون زراعةً وحصاداً وتقليماً دون إذن منه، وكذلك من قصص الخرافات أو الميثولوجيا العربيَّة التي تشير هي الأخرى إلى الثقافة العربيَّة والدينيَّة -حسب نظرة الحداثة بالقطع وحسب- في مشهد الرجل العجوز الذي يظلّ يحكي له حكاية خرافيَّة وهو مُصدِّق لها ومُمتنّ والبطل يستمع وحسب، وقد ملَّ هذه الخرافات. وكذلك من الطريقة العربيَّة في الحياة في مشهد تلك المرأة العربيَّة البدويَّة وطريقتها في نقل آنيتَيْ حليب بالطرق العتيقة للنقل.

يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. سلوى

    الفيلم ده صعب جدا

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

ترشيح كورالي فارجيت لجائزة الغولدن غلوب عن فيلمها (المادة ): -النساء معتادات على الابتسام، وفي دواخلهن قصص مختلفة !

تجربة في المشاهدة .. يحيى عياش.. المهندس

مقالات ذات صلة

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر
سينما

فيلم (أنورا).. ذروةُ مُهَمَّشي سينما بيكر

علي الياسريمنذ بداياته لَفَتَ المخرج الامريكي المستقل شون بيكر الانظار لوقائع افلامه بتلك اللمسة الزمنية المُتعلقة بالراهن الحياتي. اعتماده المضارع المستمر لاستعراض شخصياته التي تعيش لحظتها الانية ومن دون استرجاعات او تنبؤات جعله يقدم...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram