علي الياسري
(لا أُعلق أهمية كبيرة على النص بالمقارنة مع الأسلوب البصري. هذا هو النهج الحقيقي للفيلم السينمائي) تأخذ عبارة جان كوكتو مداها الأوسع في رؤية مهند حيال بفيلمه (شارع حيفا).
يستعيد بصريا كوابيس تلك الايام القاتمة كأنها لوحات غويا السوداء، حين همس نبض الوقت بسعار حرب طائفية امتد تأثيرها لراهننا الحالي بعد أن غيرت جلدها أكثر من مرة بين شراسة النزاع المسلح المؤدلج ومخالب الصراع السياسي المكوناتي، وكلها لم تُخّلف سوى جروحاً غائرة في جسد الوطن وأرواح ساكنيه.
بأولى تجاربه السينمائية الروائية الطويلة يُظهِر المخرج العراقي الشاب إمكانات مميزة في الإمساك بلغة الصورة وفرض الايقاع اللازم لتنامي الإثارة. يخلق الاجواء الكابوسية بوحي الستايل التعبيري البصري (زاوية الكاميرا، الديكور، نمط الاضاءة، الاداء التمثيلي)، محفزاً مشاعر القلق والتوتر على أمتداد زمن العرض. يلتقط هذيانات الأرواح وسراب أحلامها وحالاتها الوجدانية العنيفة دون أن يسمح لملل الحوار بالنفاذ الى نفس المتلقي بعد أن كثفه نحو جمل مقتضبة مركزة لا تظهر إلا عند الضرورة لصالح لغة الصمت والتجسيد. كان يدرك بشكل تام أن السينما ليست نسخة طبق الأصل من الحياة بقدر ما هي إعادة تكوين فاعلة لها باستخدام سيميائية الصورة وبدلالة عناصر التكوين وتأثيرها الذهني في تشكيل معالم المعمار السردي.
إن الزمن الواقعي في (شارع حيفا) هو زمن الشعور النفسي الداخلي للشخصيات بما يتفق مع فكرة الديمومة في فلسفة برغسون. يتراكم كإحساس عميق وتجربة ذاتية تتابع ضمن مجراها تبدلات الوعي والإدراك بتغير متجدد لا ينقطع فيه صلة الماضي بالحاضر . وعليه فالزمن قد يبدو ظاهرياً محدود بساعات قليلة من نهار يوم واحد ، لكنه فعلياً يمتد بديمومة حية يعيشها الانسان حيث تمتزج في داخله أحداث يتفاعل فيها نفسياً الماضي والحاضر بشكل عضوي. لذلك نرى شخصيات الفيلم في مشاهد عديدة بدءاً من الافتتاح تعطي ظهرها للكاميرا تتطلع الى مصير فقد ملامحه مثل وجوههم المرهقة وأرواحهم المستنفذة بعد أن أضناها الجانب القبيح والظالم للبشرية جراء الجشع والرغبة النهمة لأمتلاك القوة وأستعراضها.
يتجلى مفهوم الاستلاب في أشكاله المتعددة النفسية والاجتماعية والسياسية بشكل قوي في تأسيس قصة الفيلم. أمر برز بشكل كبير مع الاحتلال الامريكي للعراق بعد أن نبتت بذوره قبلها زمن الدكتاتورية، لقد قلب المحتل ما طرحه توماس هوبز في فلسفته فبدل انتقال البلد لإدارة سياسية تضمن بشكل حقيقي إلا من والحرية، صار قانون الغاب والحرب واللاأمان هو محور عيش الفرد العراقي، بعد تبدّد أحلام رفاه العيش الى صراعات يومية حافلة بالتسلط والضنك الحياتي والاضمحلال الشعوري. يُعبّر المخرج عنه برتل الهمرات التي تعبر الجسر في إشارة لمنطق القوة الغاشمة. قسوة، عنف، وحشية نتاج أولى حفلات الاستلاب المستورد على ظهر دبابة الامريكي في سجن أبو غريب. تلك الهمجية الممنهجة كان الغرض منها انتزاع آخر رمق للانسانية من الأرواح وفق منطق الإهانة والإذلال وكسر النفوس، لخلق مسوخ لا هدف لها سوى الانتقام والقتل والتدمير والغاية تحطيم أية أواصر متبقية بين شرائح المجتمع العراقي ، يجمع مهند حيال كل ذلك ليسقطه على شخصية سلام وبيئته المكانية ، فهو المتطلع من أعلى بفوهة بندقيته لقنص كل من يخطو في الشارع دون أذنه. بملابسه وتفاصيل عيشه وكلب الحراسة يمارس فعل التعذيب الذي سلخ براءته مسبقاً على ضحايا من أبناء جلدته. ديمومة غضب مستعر بشهوة النقمة على كل شيء صارت نهج حياة، حتى سلوكياته أضحت محاكاة لما جرى عليه في السجن، مرتدياً زي جلاديه ومقلداً افعالهم. ذاكرة مشوشة وتداعٍ ذهني تتعقد معه العلائق بين الشخصيات لتتكشف شيئاً فشيئاً عن تراكم القسوة في النفوس للحد الذي يصبح الجميع تحت الضغط الهائل غير مأموني الافعال والعواقب، لقد صار سلام أنموذج الارهابي الذي أنبتته ريح الاحتلال والتي عبر عنها المخرج مهند بتلك النسمات الممسوسة بفعل الشر تهب على وجه سلام أكثر من مرة، تحمل قوة مزعومة لتغطي على خواء روحي وعقم شعوري رصده الصانع بالعديد من التعبيرات البصرية الذكية والفعل الدرامي. واقع تبدو فيه كل الشخصيات مشوهة مأسورة لهستريا العنف، لا تعرف طعم الراحة التي بدت بمفارقة داكنة من حصة ضامر العقل والجسد فقط حين يستعرض حريته على جسر المدينة منفرداً.
يقدم شارع حيفا صورة يتبدى من خلالها كثرة الأهوال التي أثقلت كاهل المرأة العراقية دون أن تكسرها. يرصد حقيقة المقاومة والشجاعة النابتة في صخرة التحديات وهي تواجه تبعات عقود من مخلفات الحروب وصعوبات العيش. يلعب على تنويعات شعور الحب الذي يؤطر شخصيتها كدافع قوة تستخدمه عند لحظات المواجهة. إنها الإطار الذي أحاط بصور شخصية سلام في مراحله المختلفة بين الطفولة والصبا والشباب والمعلقة على حائط منزل الاهل، قبل أن يُفقده الاحتلال روحه ليغدو مسخاً يتلظى على نار الحقد.
من المبهر ان نُشاهد طاقات تمثيلية عراقية ناضجة تمنح الأمل بوجود جيل ناشئ قادر على تقديم تجسيد فاعل وحيوي ومقنع. فالأداء الرائع الذي قدمه علي ثامر متلبساً شخصية سلام بدا لافتاً. كان اختياره من قبل المخرج موفقاً لأنه يحيلنا الى واقع مرير عشناه ورأينا فيه شباب لا مقومات بدنية أو شخصية لديهم كما تفترضه الصورة النمطية الشائعة تحولوا بفعل قسوة الظروف الى إرهابيين عتاة يقتلون بدم بارد متحمسين بسطحية دوافع ايديولوجية ثيوقراطية. ولا ننسى الممثلة الشابة رضاب أحمد التي جسدت في أول أدوارها على الشاشة شخصية نادية بأداء ممتاز تلقائي وغير مفتعل، أبرزت من خلاله حضوراً أضاف له الكثير شكلها الطبيعي العراقي المميز.
فنيا ارتقى مدير التصوير سلام سلمان الى المستوى المطلوب بلقطاته المميزة وحركة كاميراه وموضعتها بما يخدم الشكل البصري المبتغى. كما كان المونتير علي رحيم دقيقاً في توقيتات المونتاج، انساب معه الفيلم وفق مقدرة واعية بمتطلبات السرد وإيقاعه. ورغم قلة حضور الموسيقى إلا أن ما قدمه المؤلف رعد خلف في لحظات الإثارة حيث كانت الجُمل مُعبرة موسيقياً خصوصا حين رافقت مشهد النهاية وتايتل الختام، يكشف عن طاقة واعدة في تأليف الموسيقى التصويرية للسينما العراقية.
يؤسس مهند حيال سينماه وفق نظرة أسلوبية معاصرة تنهل بشكل حيوي من بيئتها المحلية دون فذلكات مفتعلة أو مبالغات غير واقعية، ساعياً لتجاوز المباشرة أو الحكم على شخصياته. يتجنب تحديدها ببعد واحد فلا خير أو شر مطلق لأن كل شيء رهين بالتداعيات . يكسر منطق الشمولية بتعزيز الفردانية، تاركاً لعين كاميراه النظر من كل الاتجاهات.