طالب عبد العزيز
واحدة من مهام الثقافة في مجتمع ما هي أنها تجعل الحياة متاحة وممكنة، ذلك لأن الانسان في دورة وجوده اليومية، وما يعترضه من المتاعب والمشاكل، في البيت والأسرة والعمل والشارع سيكون بحاجة الى ترديد بيت الشعر الجميل، أو معاينة اللوحة المناسبة لذوقه، وسماع القطعة الموسيقية أو الأغنية التي يحب وهكذا، ولعل الهارموني هذا، الذي "يدوزن" الحياة ومتاعبها على سلم اللحظة المتأملة ظل فاعلاً بالانسان، يوازنه في لحظات ضعفه، ويضاعف الأمل له، ويحدثه بإمكانية التغيير نحو الأفضل.
نجد النمط من العلاقة هذه جلياً في المجتمعات الآمنة المستقرة، ولعل واحدة من إنجازات الحضارة في أوروبا انَّ السلطات ظلت راعية وضامنة للعلاقة هذه، حتى صرنا نحيل كل ما تم انجازه من الفنون، في عصر النهضة الى نمط الحكم آنذاك، ولعل الفعل الحضاري هذا صار متوالية السلطات في فرنسا وايطاليا والنمسا وألمانيا وغيرها في القرون المنصرمة. وصار بمستطاع معاين الأعمال الفنية الخالدة تصور ورؤية نمط الحياة الذي كان، على خلاف المجتمعات والأنظمة التي لم تعِ معنى وجوهر العلاقة هذه، فضاعت فرص التحضر وتشرذمت المواهب وبلغت الانحطاط في معظم مفاصلها، ولا برهان أصدق من الشعوب التي حكمها العسكر، والتي ظلت تتقلب مع تقلب أمزجة الجنرالات، وكذلك كان حال الشعوب التي حكمتها الأنظمة التوتاليتارية والثيوقراطية الى حدٍّ ما، حيث تنفرد السلطة بإدارتها بعيداً عن حاجة مجتمعاتها الى ما يخفف من أعباء الحياة عبر حضانة الثقافة للسلطة.
وفي(الادب الجاهلي) يحدثنا طه حسين عن عملية المحو المقصود للأثر الشعري والسردي الذي كان قائماً قبل الإسلام من قبل نظام الحكم الإسلامي ثم يحدثنا عن التشوية الذي قام به الوضّاع والنحّالون، الذين أوهمونا بانتساب ما دون الى فترة ما قبل الإسلام، وبذلك اصبحنا أمة لا تعرف عن ماضيها شيئاً، هذا العبقري الذي دلنا على حقيقتنا في المحو وطمس ثقافتنا التي لا بد إنها كانت مختلفة عن ما درسناه ذات يوم، بل قمعت السلطات الدينية في بعض البلدان أفكاره، فلم يكرمه أحدٌ هناك، ولعل ما قامت به السلطة الدينية في مشرقنا العربي من ربط محكم بين الدين واللغة والحياة حجب عنا حقائق كثيرة، حتى ذهبت كل محاولات المثقفين العرب في إنتسابنا الى حضارات بلاد ما بين النهرين ووادي النيل بلاد الشام وغيرها أدراج الرياح.
تذكرتُ بيت أبي نؤاس الشهير:" تسألين عن سقمي ؟ صحتي هي العجب!! وأنا أرصد حال الثقافة في العراق وبعض البلاد العربية، وقد بات الشاعرُ محرجاً في أن يقول عن نفسه شاعراً، ويخجل الموسيقي من حمل آلته بين الناس، والرسام وهو خائف يكدس أعماله في محترفه أو في بيته، ولا يجد من يشتريها.. ولكي نصل الى نتيجة ما، في ما تعاني منه ثقافتنا نقول بان النظام الديني المتشدّد والسلطان الجائر انتجا لنا مجتمعاً معاقاً ذهنياً، لا يعرف عن ماضيه شيئاً ولا يجد في الفنون والثقافة إلا نقيصة في الفكر وفجوراً في السلوك، الأمر الذي جعل المثقف في وادي الضياع والمجتمع في وادي الغفلة، وبذلك تحقق حلم السلطان الجائر، وفقدنا الأمل في التغيير.