لطفية الدليمي
يتوهم البعض أنه يتفرج على فجيعة الغرقى وهم يصارعون الحياة في محنة آمالهم الخلّب ، وأنه من موقع المتفرج قد حظي بالنجاة من سراب الأمل، متجاهلاً أنه يمارس خداعاً موجعاً للنفس قد يوازي غرق اؤلئك الذين يرجون الخلاص وهم رهن المستنقع المسموم في البلد الحزين .
شراسة الظمأ للحياة تؤاخي بين المتأمل الأعزل الغارق في سراب الأمل وبين المتشبث بالنجاة المستحيلة. كل متفرج ناجٍ يسير من مطلع الشمس باتجاه الأفق متلمساً خلاصه بفكرة أوحلم، ليلهُ أرق وعتمة وتوقّع محنة تالية، والمدن تُحتضر في القيظ المهلك ، لاكهرباء ولا منطق في طول البلاد المبتلاة بثارات التاريخ ، فهنا يتساوى العراقيون المحتجزون في مستوطنة العقاب.
الحَجْر الكوروني الذي ألزمهم البيوت زيّن لهم عزلة النجاة وأهمية خلاصهم الفردي، أغرقهم في أنانية الدفاع عن الواحد الأعزل القابع فيهم، قتلَ في ذاكرات البعض تأريخ الكائن المجتمعي، أخرس نزعتهم للحوار وأحبط مشاريع احتفالات صغيرة بأنفسهم وأحبائهم، ودفعهم لإرجاء الرؤى وبدّد مشاريعهم وحَرّم المتع وأفسد أحلامهم ودفعهم ليساكنوا الهلع في مضاجعهم ويُطعَموا المخاوف على موائدهم، إكتشفوا بغتة ضآلة الإنسان وعجزه، فضح الحجرُ تأريخاً مديداً من تبجحات البشر وبطولاتهم المدّعاة وتخيلاتهم عن أنهم مركز الكون و أسياد الحياة وأنهم الموكلون بإدامة الوجود وصون بذور التجدد، إنكشفت أوهامهم أمام تأملاتهم الواعية وافتضح عري النظم الحاكمة في عصرهم وخداع قادة العالم ومنظماته المتعفنة، رأوا العالم كما لم يعرفوه من قبل : موئساً، باعثاً على الغمّ والخذلان، أبصروا اختلال الأشياء ووهن العقائد، فُجعوا بخداع الوعود وعجز اليقينات المتحجرة عن إنقاذهم، سخروا من التعلقات الباهتة التي يراوغ بها المخدوعون يأسهم ويتقبلون بها عوق حياتهم استسلاماً لرجاء نجاة محتملة . عرفوا في لحظة الوعي المباغتة أنهم غرقى جميعاً في سراب أممي مكهرب بصراعات الدول منتجة الخراب وواهبة النذر، ولم يتبق لهم من مسوغ للإصطبار على البلوى وهُم المبدّدون في السراب العظيم الذي يديم عطشهم ويبدد علامات الدلالة ومؤشرات الطريق إلى النبع .
يفر الناس من أنفسهم في صحراء التوقعات المخيّبة، يتعجلون مرور الزمان بقدوم ليل موحش أو بزوغ نهار واعد ، لعل شيئاً سيحدث وراء غبش السراب، لعل بشيراً يلوّح مما وراء القنوط العراقي ببشارة تقدح شرر الحياة وتحيي أجساداً صيّرها الغضب والقيظ هياكل من حطب وخسران، تتعجل الجموع هربها من يأسها متشبثة بتعلقات واهية وقصص عشق أو تمارين نسيان لكوارث عتيقة وتلوذ منهكة بأقاليم أحلامها المشتهاة، أو تتحامل على يأسها وتتوسل ضوءاً من فكرة منصفة أو تفسير عقلاني لمحنة شعب مهدور الدم، تدرك الجموع أن ما من خلاص في وادي الجحيم المؤبد؛ يواصل البعض السخرية من يأسهم الوطني الشاسع ، يواصلون الهزء من خساراتهم الفادحة وندمهم اللامجدي، يبتكرون فكاهات عن أنفسهم المخذولة وأعمارهم التي سممتها أفاعي الأحزاب وشوهتها العقائد ولوثها التعنصر وصراع الطوائف ودماء الضحايا، يتأسّون طويلاً من ظلم عقود تهاوت وما يتبدد اليوم من زمنهم، ثم يعلنون أمنية خلاص فاتك لايبقي على الأرض شيئاً ولا يستثني أحداً: لعلّ مذنّباً سماوياً ثملاً ينحرف عن مداره ويُغوى بزرقة كوكبهم الأرضي فيحترق في نطاق الهواء ويهبهم نهاية كونيّة ، يريهم لحظة مستعادة من الانفجار العظيم حين ولد الكون من سعير مخلّد كجحيم وطنهم المستديم ، يصرخ اليائسون :
- معذرة لرؤيانا الخلاصية المدمرة، فهذا أكرمُ لتأريخنا البشري وأهون من حفل الشواء البطيئ بالقيظ اللاهب أوالموت اغتيالا بسلاح المتصارعين على المأدبة أو بكوفيد 19 .