TOP

جريدة المدى > عام > يوغا شعرية في بلاد الثلاثاء

يوغا شعرية في بلاد الثلاثاء

نشر في: 19 يوليو, 2020: 06:24 م

سارة سليم

لعل القراءة بشكل عام وسيلتنا الوحيدة لرؤية أنفسنا وتبصرها على نحو مختلف ، فهي تجسد شكلاً من أشكال الخلاص،أو البحث عما ضاع منا في لحظة فقد.

فما بالك إن كانت تلك القراءة شعراً، أعتقد أنه لا يمكن لأي قارئ أن يتذوق الشعر ويبحر في سبر أغواره إلا من اعتاد أن يسافر عبر الكلمات إلى عوالمه ،الظاهرة منها والخفية،عله يجد ما يبحث عنه كي يسد حاجته الفكرية.... فالشعر يعري ويكشف حقيقتنا ،إذ تتمثل أمامنا بكل قصيدة حكاياتنا التي ظننا لوهلة أننا نسيناها وأوجاعنا التي تناسيناها.

من الشعراء الذين قرأتهم مؤخراً الشاعر الفلسطيني خالد سليمان الناصري، افتححت قراءاتي له بديوانه الأول الموسوم ب: "صدقت كل شيء " الصادر عن( دار كنعان 2009). لكننا ما صدقنا كل الذي كتبه خالد! لأنه يكثف المعنى مما يجعلك تستحضر كل ملكات القراءة لديك كي تفهمه،وكأني بك في جلسة يوغا شعرية !، ولربما هذا هو الاختلاف الجوهري بين الشاعر والروائي . فالأول إن كان مبدعاً سيكون أكثر صدقاً وتوحداً مع ما يكتب.

مرات نقرأ بعض التجارب الشعرية المكتوبة بلغة جميلة لكنها دخان لغة دون معنى ولا صور عميقة ، وما أكثر الدخان على أيامنا هذه !. الملاحظ في نصوص خالد الشعرية في "صدقت كل شيء " أنها تعبر عن حالات الفقدان والغياب, حالات من الحزن جعلت منه يغضب و ينتفض من خلال كلمات طافحة بالألم:

" بغيابك: خرج القتلى من المسافة التي بيني وبينك،وانكشفت فضيحة الأرض".

والشيء ذاته بالنسبة لنصوص ديوانه الأحدث"بلاد الثلاثاء" الصادر عن (دار المدى 2019) الذي ابتدأه بعبارة قوية يقول فيها:

" عندي في ذمة الله قتلى كثيرون". 

نحن أيضاً كقراء لدينا الكثير من الكلمات لنقتلها على الورق بحق بلاد الثلاثاء !

القارئ للناصري يدرك أنه مسكون بهاجس القضايا العربية ،فهي من شكل وعيه الشعري . والحقيقة أن كل عربي الآن مسكون بقضاياه ،لكن لنتفق على شيء: ليس كل موجوع بالضرورة مبدع !، فخالد الناصري في بلاد الثلاثاء يجعلك تقرأ العبارة لأكثر من مرة ،فهي تتجاوز المعنى المكتوب إلى ما يريد أن يقوله ويوصله...

رسم بالكلمات صورا ومشاهد حية في الذهن ، فيجعلك ترى تلك الصور وتتفاعل معها لدرجة أنها تحفز ذاكراتك في استرجاع حوادثا مررت بها في حياتك ،فهو بقصائده يمنح قراءه فرصة كتابة قصائدا متخيلة على وزن أوجاعهم، وهنا برأيي يتجلى إبداع الشاعر أو لنقل قدرته على تصوير المشاهد لمتلقيه، فعلى حد تعبيره:

"منحت كلماتي دماً وشرايين و أوردة،وجهات أربع منحت كلماتي عظاماً، وكسوت العظام لحماً وحزناً/ منحت كلماتي قلباً،ونفخت فيه كثيراً، ولم ينبض/ لا..... لم أفلح بمنح كلماتي موسيقى/ فما نفع كلماتي إذن؟! "

فقصائد " بلاد الثلاثاء " تحمل الألم والوجع العربي في صدقه المطلق والموجع، لأنه لربما انتصر بشكل ما في التعبير عنه.

كتب عن الطفل حمزة الخطيب الذي وجد مقتولا بالعام 2011: "في شارع آخر شاب في مقتبل العمر/ أراد أن يذهب للحرب/ لكنه اختلف على ذلك مع خياله./ خياله عاد وحيداً إلى البيت.

قتلوا بالعام ذاته المغني إبراهيم القاشوش واصفا الذاكرة التي تذكر كل هذا بالذاكرة المتورمة، وأي وصف هذا: "لكن الذاكرة الآن تضرب بالهراوات والرصاص./ أية ذاكرة متورمة ومثقوبة ستكون لنا ؟/ الذاكرة تغني أيضاً / ولكنها إذا ما غنت، اقتلعت حنجرتها ورميت في النهر " 

رسم خالد الوجع ، ولم يكتبه... كتب عن الأحلام الموءودة و الآمال التي أجهضت قبل أوانها : "في الشارع الآخر/ امرأة عاقر تصرخ: قتلوا ابني ذاك الذي تمنيت دائما أن أنجبه. "

أبرز من خلال بلاد الثلاثاء وهو الفنان علاقة الشاعر بالفنون الأخرى، و تحديدا الموسيقى ، وإلى أي مدى يمكن أن تصقل الموسيقى ذوق الشاعر ،مشكلا بذلك امتزاجاً رهيباً يتنفس من خلاله الوجود موسيقى من نوع خاص، إنها موسيقى الشاعر حين يعزف على أوتار الكلماتك: 

" أنا الكائن يحيا بالموسيقى/ وإذا توقفت الموسيقى، توقفت الحياة" 

لعل أكثر ما عبر عنه خالد الناصري هو الفراق ، الفراق بعيداً عن الأوطان وعن من أحببنا :

" أخذوا معهم صباحاتنا، وتركوا ذاكرتهم تغني"

لفت انتباهي أيضاً تعريفه لكلمة صرير ، والمقصود بها على حد تعريفه و بحسب الباحثيين الفلسطينيين من يرحل عن أرضه مرغما مكرها : 

"أي ذاكرة من صرير ستكون لنا !"

هناك الكثير من النصوص التي تضمنها كتابه و التي لا يمكن اختصار مضامينها في مقال واحد، كالتي تتحدث عن علاقته بالشعر تلك التي خاطب من خلالها بودلير : "يخلق الشاعر في الطفولة، قبل أن يستطيع النطق"

لعل أهمها قصيدة أهداها لابنه آدم فهي تشي بالكثير من الصدق والمحبة: 

"سأكون الحسد، كي لا أقربك / بل سأكون العيون كلها التي تصيب/ لأتأملك بها بينما تغفو أنت على ذراعي وتصييني العيون"

أما أصل تسمية ديوانه بلاد الثلاثاء هي الحرب التي شكلت ثيمة قصائده، التي تفوح منها رائحة الموت والبارود:

"ما حسبناه صفير هواء/ في رأس مثقوب / كان شيئاً آخر لم نعرفه./ لكنه كان يترك دما في الهواء. "

فرمزية الثلاثاء عند الجميع هي الحرب وإن تعددت أسماءها في بلاد الثلاثاء إلا أنها تبقى الباعث الحقيقي التي جعلت خالد في خاتمة مقدمة كتابه يقول :" ربما لا نصلح إلا للإنتظار من الثلاثاء إلى الثلاثاء." 

أما غلاف" بلاد الثلاثاء" للشاعر خالد سليمان الناصري نفسه لأنه امتداد لحالاته الإبداعية فالفنان الذي يسكنه أراد أن يقول إن الفن جزء متكامل و لا يمكن إلا أن تتوحد كل أجزائه لتشكل قصائد جميلة خطها على صفحات بلاد الثلاثاء.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram