ستار كاووش
أثناء افتتاح معرض اشتركت فيه مع بعض الفنانين، تعرفتُ على شخص اسمه ماركو، وقد سألني وقتها عن لوحاتي، وإن كانت هناك ثمة موديلات أو نماذج أرسم من خلالها أعمالي؟ فحدثته عن بعض التفاصيل التي تتعلق بطريقتي في الرسم، وأثناء حديثنا أخبرني بأنه يعمل (حارس جسر)!
يومها لم يمض وقت طويل على وجودي في هولندا، لذا ابتسمت وسألته أن يكرر ماقاله بشأن عمله، ليـؤكد لي بأنه يعمل حارساً لأحد جسور مدينة ليواردن! يالها من مهنة شِعرية وغريبة، بل غريبة جداً، وربما هي أغرب مهنة سمعتُ بها في حياتي، فماذا يوجد في الجسر كي يحتاج لمن يحرسه؟ وهل هناك ضرورة لحراسته أصلاً؟ كنتُ جاهلاً في الكثير من التفاصيل التي تخص الحياة الهولندية، لذا تبدّد جهلي حين شرح لي الأمر، وإتضح لي فيما بعد أن هذه المهنة تعتبر اعتيادية في هذا البلد، ويمارسها مئات وربما آلاف الناس. ففي مدينَتَي إمستردام وروتردام وحدهما يوجد أكثر من ألفي جسر، وهكذا مع بقية المدن والقرى، ومن ناحية أخرى فأن المراكب والسفن التي لا حصر لها، تكون في الغالب ذات أشرعة أعلى من ارتفاع الجسور، وهي بحاجة للمرور، وهذا يتطلب وجود شخص يفتح لها هذه الجسور المتحركة كي تمضي في طريقها بيسر، ومن هنا أصبحت هذه المهنة حاجة ضرورية في الحياة الهولندية.
كنت البارحة في جولة قريبة بين المزارع التي تحيط بالمرسم، وهناك اجتزت بعض الجسور والقناطر التي بدت وكأنها تتكاثر ولا يمكن الإمساك بعددها، فتوقفتُ عند أحد الجسور المعلقة وهو يفتح ذراعه الى الأعلى كي تمر السفن الصغيرة والمراكب الشراعية، لأتأكد من أن عظمة الانسان في إنجازه، والإخلاص في العمل هو وحده من يبني البلدان ويجعل الأرض أكثر عدلاً وجمالاً. ومهما كان حجم الموارد فهي كافية، لو أُستخدمت بطريقة مخلصة وشريفة وعادلة!
الجسر فكرة للتقارب والتواصل بين الناس، إنها تربط لهم الجهات ليتبادلوا الخبرات والتجارب والحِكَم، وحتى المحبة والعشق والقبلات (ألا توجد جسور للعشاق محملة بالأقفال والذكريات التي لا تنتهي؟). وبما أن هولندا بلد يقع تحت مستوى سطح البحر ويحيطه بحر الشمال من جهتي الغرب والشمال، لذا كان الماء يهدد البلد منذ مئات السنين، ومخاطره كانت تلقي بظلها على تفكير الناس في الماضي، بعد أن وقعت الكثير من الفيضانات التي أغرقت المدن وأودت بحياة الناس والمزروعات وكل شيء، ومن هنا تعلم الهولنديون التعامل مع الماء في كل المجالات وعلى جميع الأصعدة، وأنشِئَتْ الجسور التي يتنقل عبرها الناس، حتى لتظن من كثرتها أن هولندا عبارة عن مستنقعات وبحيرات تتصل مع بعضها من خلال هذه الجسور التي تداهمك أينما تمضي وكيفما تتجول.
تنتصبُ في هولندا آلاف الجسور والقناطر مختلفة الأحجام والأشكال والتصاميم، وهي متعددة الاستخدام، فهناك الجسور الطويلة التي تفصل بين بعض المقاطعات، والجسور التي تفتح أذرعها الى الأعلى كي تمر من خلالها السفن والمراكب الشراعية، وهناك القناطر الخشبية التي ترقد فوق القنوات المائية المنتشرة في كل البلاد وتسهل انتقال المارة من جانب لآخر، وثمة جسور مخصصة لعبور الدراجات الهوائية فقط، وهناك الجسور التي تشبه السدود في بنائها، بحيث تتيح بعض الفتحات التي تتخللها للأسماك بالعبور من جهة الى اخرى. وكذلك الجسور التي صممت وبنيت بطريقة معكوسة بحيث تحمل مياه الأنهار فوقها بينما تمر من تحتها السيارات ووسائط النقل، وهناك الجسور التي تعلو الشوارع وتمر من تحتها السيارات. أما أغرب الجسور التي رأيتها هنا فهي تلك التي خصصت للحيوانات، نعم جسور عديدة في هولندا صممت وبنيت فوق الكثير من الشوارع الرئيسية الواسعة التي تحيطها الغابات من الجانبين، وهي تكون عريضة جداً في العادة وتغطيها الأدغال والنباتات البرية وبعض الأشجار بحيث يتسنى لحيوانات مثل الغزلان والأيائل وغيرها التنقل بين جهتي الغابة دون الشعور بفرق المكان، وقد شيدت هذه الجسور كي تؤمن للحيوانات عبور آمن ولا تتعرض لدهس السيارات المسرعة.
عَبَرَتْ السنوات حياتي، مثلما عَبَرتُ أنا على جسور هولندا المختلفة، لأفهم في النهاية لماذا توجد مهنة (حارس الجسر) في هذا البلد الذي يغفو وسط الخضرة ويحيطه الماء وبالتأكيد... الوجه الحسن.