TOP

جريدة المدى > عام > المتوالية السردية في قصص غيمة عطر

المتوالية السردية في قصص غيمة عطر

نشر في: 20 يوليو, 2020: 06:59 م

ناجح المعموري

ذهب القاص حميد الربيعي نحو لعبة سردية ذكية ، لكنها بالمفاهيم النقدية معلومة . ومتعارف عليها ، حتى تحولت الى مصطلحات راسخة ،

انتجها العقل النقدي العراقي واعني به تحديداً الناقد والمفكر ياسين النصير الذي تحرك باتجاه حفرياته العميقة ، ذات الخصائص المؤسسة ، معتمدة على المعرفة واعتنى بها ، واعني به كل الذي اشرت له وهو مركز ابتداء هذا الرأي النقدي الخاص بقراءة مطر " للقاص حميد الربيعي انه " الاستهلال " الذي احترمه الناقد ياسين النصير وصار له " غيمة " وهو المخلق به والذي تمكن منه ورضى " الاستهلال " بالانفتاح كثيراً .

إنه حميد الربيعي العارف بأهمية العنونة للعمل السردي ولكافة الانواع ، لأنه يحمل روح النص ، يومئ للمتلقي كي يتسلل لما هو كامن في عمق الوحدات السردية .... إنه رقبة النص ، وهو ثرياه . كل هذه المعلومات وغيرها كثير ، هي التي صاغت فاتحة نصوص حميد الربيعي ، وأعني به الاستهلال . لكن القاص منح مجموعته فاتحة جديدة ، تنطوي على ذكاء ولفتة كاشفة عن مهارة لاختبارات السارد ، الذي هو القاص . للمجموعة استهلالها الشعري ، المركز جداً ، بحيث صار جوهرها الاول الذي منح المجموعة نوعاً من القوة واثارة الاسئلة حول ما قاله السارد في الصفحة الخامسة من مجموعته " يوم آخر ، لا تستتر ولا تكتمل غيمة عطر في متاهة ، متاهة ولا تنير ، إلا عند رواس وسواحل ، ستظهر في صباح اليوم العاشر ويراها آخرون حيث يتجمعون " هذا الاستهلال المتقدم بعد قراءة المجموعة . ولم يكن لهذا التوصل تأثير جوهري على درجة ونوعية التلقي لأني تعاملت معها عنونة للنص ولم تتشكل صيغتها التي رتبها السارد حميد الربيعي . ما حصل في هذا البناء المهم ، يمثل بعضاً من قدرات حميد الربيعي السردية ، واستمرار رغبته اللعبية ، الكاشفة للمتلقي عن وجود طاقة قصدية لحظة الكتابة ولم تكن المهارات في نصوصه حتى الروائية اعتباطية ، وتأكد لي بأنه ذهن مقتدر على اختبار ما يريده ويحلم به . ووجدت بأن عنوانات نصوصه تحولت الى نور مساهم بإضاءة فاعلية القاص في فتح منافذ للسرديات المتتالية ، وإن لم تكن كلها خاضعة لهذا المصطلح . لكنه مبثوث بهدوء في " يوم آخر / لا تستتر / حين يجتمعون / لكن لا يمكن تبرئة القصص الأخرى ، عن وجود مبثوثات فيها للوحدات السردية أو الجزيئات الحكائية فيها ، لتساهم بخلق حركة النمو والنجاح في ابتكار انسجامها مع بعضها البعض .

كنا قد اطلعت من قبل على روايته " أحمر حانة " وتكشفت لنا عن كوامن التاريخ وحضور وقائع حقيقة ، تصرف بها القاص وتلاعب بمكامنها ونجح بتكوين مساحات سردية ، مستلة من الماضي وتعامل معها بوصفها مبتكرات حديثة ، وموه عليها بمهارة وقدمها لنا لاعباً وحكواتيا ، له الخبرة في التسلل للتاريخ واستلال ما يراه ممكنا ليخلق منه سرداً متجاوراً مع غيره ، لكنه لم يكن بعيداً ، بل هو متآخ معه . فالتاريخ لدى حميد الربيعي عجينة ، هو العارف بكيفية تدويرها والاشتغال عليها ليمنحها لنا محكية ، مغايرة عن الذي كاتبه من قبل . والقاص يدرك بأن التاريخ مدونة انتجتها السلطة لتعلن بها انهيار الهامش الحياتي ومثلما قال : فالتر بنيامين بأن الحكاية هي شظية للسردية الكبرى التي هي التاريخ ، والاقتراب من السرديات الصغرى التي تتمحور حول الذات ، في بحثها عن موضع قدم في العالم . هكذا جمع " بنيامين " بين نقد التاريخ المتمركز حول الماضي . ودراسة الحاضر بنصوصه الادبية التي تنقل صوت المضطهدين في كتابات كانط ، وبريخت " .

حاول في هذه القصص التجريب وحيازة صفة لاعب ماهر ، واتضحت مهارته في انتقاء الكلمات واللعب بها ، بحيث تتحول بيده الى رمزيات ، تغادر المألوف وتحوز على تنوعات القراءة والتأمل . وولعه بالتاريخ او انتاج وقائع توحي بأنها تاريخية تمنحه فضاء حراً وواسعاً للتجريب واختبار التخيّل السردي وما يعطيه من نتائج ، خبرة حميد الربيعي تؤهله تخليق سرد تاريخي ، يقتنع به المتلقي ولا يكتشف القارئ فروقاً بين التاريخ الحقيقي او المزور ، ويتأتى هذا عبر الخبرة والمهارة في الاشارة بذكاء لما هو في التاريخ ، مثل الاسم ــ على سبيل المثال ــ والتخيل لسرد تاريخي ، يتوافق مع ما يريده القاص من أفكار وقيم . لتأخذ موقعها ضمن الوحدات السردية في النصوص ، والتي تدخل مسار سيرورة خاصة يبتكرها القاص ويشحنها بطاقة التاريخي المتخيّل ، هذا ما كان متمتعاً بحضور واضح في روايته أحمر حانة. كما يلعب التاريخي دوراً مغذياً لتعددات الوجود الخاص بالتاريخ الحائز على القوة والشعرية " ولذة النص " وهي لذة تأتي من التعرف الى سرًّ مودع في تفاصيله . بل هي حاصل الرحلة التي ينخرط فيها قارئي يحاول فهم نفسه في المقام الأول . وقد ظل وفياً لرؤية ، ترى في النص لغة ، ولأنه كذلك لا يمكن ان نقرأه دون استحضار اكراهات هذه اللغة كما قال سعيد بنكراد .

هذه ملاحظات عامة عن تجربة سردية تستحق العناية ولي عودة ثانية لتأشير ملاحظات اخرى ضرورية عن المتوالية القصصية التي سجلتها انا مقدمة للكتاب النقدي للدكتور علي ابراهيم " قصص الرواية " . 

وكذلك تقشير القصص الثلاثة المهمة يوم آخر / لا تستتر / حيث يجتمعون //

للتاريخ حضور شفاف ، أضفى على السرد طاقة مانحة التنوع الرمزي والتداخل مع اليومي والتزامن مع الوقائع التي كرست اهتمامات القاص لما يتبدّى عليه التاريخ في الاستثمار القصصي . الهوية ذاكرة الجماعات ومروياتها الشفاهية الخاصة بالذاكرة والتاريخ وهي ــ أيضاً ــ الماضي الخاص بالجماعة . لذا دائما ما يكون التبادل والقبول المستمر والتعامل معه بوصفه إرثاً فاعلاً للانتقال من جيل الى جيل آخر . هذا الإرث المتنوع ( قومي ، وديني ، وعشائري " لا يعيش في سلام دائم وإنما يقود صراعات مع الآخر مع مكوناته القديمة ، لكنه كثيراً ما يكون بحاجة الى وفاق رمزي وموضوعي ، لأن الهويات تتفكك في الصراعات المادية وتوترها تشظيات لا تترك فراغاً واسعاً ، لأن الهوية ستحضر بديلاً ثقافياً من خلال صيرورتها وبقاء تكونها مفتوحاً / ناجح المعموري / جدل الهويات ، حوار المجاورة او صراع الاختلاف / ضمن كتاب / الهوية تحديات العصر / ابن النديم ودار الرافد ص 213//

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram