TOP

جريدة المدى > عام > الناقد الأدبي: إعادة قراءة حكاية قديمة

الناقد الأدبي: إعادة قراءة حكاية قديمة

نشر في: 21 يوليو, 2020: 06:16 م

لطفية الدليمي

أنهيتُ قبل أيام قليلة قراءة كتاب ممتع - وإن كان متقادماً بعض الشيء - في النقد الأدبي عنوانه (المرآة والمصباح: النظرية الرومانتيكية والتقليد النقدي)* لمؤلفه البروفسور (ماير إج. أبرامز).

وهو أحد إصدارات جامعة أكسفورد البريطانية لعام 1971 ؛ لكنّ الكتاب في طبعته الأولى نُشِر في عام 1953، دفعني لقراءته التقريض الطيب الذي كتبه الراحل الدكتور (عبد الوهاب المسيري) بحقّ الكتاب ومؤلفه في سيرته الذاتية الرائعة، ويبدو أنّ هذا الكتاب كان أحد المصادر المرجعية الأساسية لدى كلّ دارسي الأدب في الجامعات الأمريكية في خمسينيات القرن الماضي ومابعدها.

ويتناول البروفسور (أبرامز) في كتابه هذا الموضوعات المطروقة بطريقة مبتكرة تذكّرنا ببعض أساطين النقّاد والمنظّرين الأدبيين على شاكلة كتاب (معنى المعنى) لمؤلّفيه الكبيرين (أوغدن و ريتشاردز)، وكتاب (تشريح النقد) لمؤلفه (نورثروب فراي)، والكتاب الموسوعي الضخم بأجزائه الستة (تأريخ النقد الحديث) للبروفسور (رينيه ويليك)، وكتاب (سبعة أنماط من الغموض) لمؤلفه (وليام إمبسون). 

يبدو لي أننا غادرنا العصر الذي يمكن أن نشهد فيه نظراء لكلّ من (إف. آر. ليفز) أو (رينيه ويليك) أو (فرانك كيرمود) أو (هارولد بلوم) أو (رايموند ويليامز). وأتساءل هنا لماذا آل وضع النقد إلى هذه الحال في قرننا الحالي ؟ ذلك واحد من الأسئلة الإشكالية التي لطالما تفكّرتُ فيها ملياً (عبر انشغالاتي السردية والفكرية في أقلّ تقدير) وحاولت أن أقف على مسبّباتها، وأظنني توصلت إلى بعض تلك المسببات:

- الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات: من المعروف أنّ إحدى الخصائص الواضحة التي تسِمُ عصرنا هي الميل المتعاظم لتحطيم المرجعيات المهيمنة وإقامة نمط من الأخلاقيات الفردية التي تنفر بطبيعتها من الإنشداد لأية مرجعية خارجة عنها واعتبارها نموذجاً معيارياً يتوجّب التعامل معه باعتباره مايمنح المشروعية لأي نسق فكري يجتهد الفرد في تطويره. النقد الأدبي بهذا المنظور هو مرجعية يتمّ على أساسها مباركة العمل الأدبي وإدراجه ضمن حظيرة (المُعْتَمَد الأدبي Literary Canon) ؛ وبالتالي لابدّ أن نتوقع تهشيماً مستديماً سينال هذه الرؤية التي ترى في الناقد الأدبي (الحارس الكهنوتي) الذي آلت إليه وحده مهمّة الحفاظ على نقاوة المنجز الأدبي من التلوّث. 

- النقد الأدبي غدا فرعاً من دراسة السياسات الثقافية: يمكن للمدقّق المتفحّص في ثقافة القرن الحادي والعشرين أن يرى نزوعاً لايفتأ يتعاظم لتوظيف نظرية الأنساق الشاملة على نحوٍ مماثلٍ لما يحصل في كلّ المباحث المعرفية الأخرى (العلمية والإنسانية) وبطريقة ماعاد معها أي مبحث معرفي تقليدي جزيرة قائمة بذاتها بل هي جزء في منظومة دينامية معقدة ؛ وعلى أساس هذه الفكرة صار النقد الأدبي مبحثاً فرعياً في نطاق الدراسات الثقافية التي ترى الأدب تياراً في نسق ثقافي وليس كينونة قائمة بذاتها. 

- الجغرافيات المحلية وتأثير العولمة: يرتبط مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي بالجغرافية المحلية وببواكير نشأة الدولة القومية، ويمكن للقارئ أن يجري مسحاً سريعاً للأسماء النقدية الأدبية الكبيرة التي شاعت في القرن العشرين وسيكتشف أنّ كلاً من تلك الأسماء إرتبطت بجغرافية قومية محدّدة جعلت من تلك الأسماء عناصر تعزز التعالي القومي وتُمَيّزُه بالمقارنة مع الآداب القومية الأخرى. ليس صعباً أن نتخيّل ماالذي فعله طغيان المدّ العولمي في تهشيم صورة (الناقد الأدبي) الكلاسيكية القريبة من مرتبة الكهنوت الأدبي ؛ فقد إنحلّت التخوم الأدبية القومية لصالح مركّب تخليقي عولمي يعمل على توظيف كلّ التجارب الإنسانية بصرف النظر عن جغرافيتها المحلية، ويُضافُ لهذا الأمر شيوع النقد الثقافي مابعد الكولونيالي الذي صار فضاء مفتوحاً على كلّ الآداب العالمية. هل نتوقّع بعد هذا أن يظهر لنا ناقد على طراز (إف. آر. ليفز) يصرّح بأن ليس ثمة من شعراء إنكليز سوى ثلاثة: تي. إس. إليوت، وجيرارد مانلي هوبكنز، وو. ب. ييتس ؟ هذا المثال الأدبي النقدي المُغالي في رؤيته الضيقة المتعالية لم يعُد له وجود في عالمنا اليوم.

- إنكفاء الناقد الأدبي في قلعته الأكاديمية: قد يبدو هذا السبب منطوياً على شيء من القسوة المفرطة ؛ لكنه حقيقي ومنظور ويمكننا تلمّس حيثياته بخاصة في بيئتنا العربية. فقد ظلّ الناقد الأدبي الكلاسيكي موهوماً بمساكنة الأعالي الثقافية المهيمنة على المشهد الثقافي بكامله، ولبث معتكفاً في صومعته الأكاديمية التي وفّرت له نوعاً من مظلّة حمائية لوقتٍ ما ؛ غير أن الإنعطافات الثقافية الثورية التي جاءت في أعقاب مواريث مابعد الحداثة كانت أقوى من متاريس (كامبردج) أو (أكسفورد) أو سائر المعاقل الأدبية الكلاسيكية الموهومة بالحصانة المنيعة إزاء المتغيرات العاصفة وبخاصة تأثيرات الثورة الرقمية التي أعادت تشكيل أنساق الخطاب الذي يتوجّه به الناقد إلى عموم القرّاء. 

- تأثير خوارزميات الذكاء الإصطناعي في إعادة فهم بلاغة اللغة: اللغة هي أهمّ عناصر (مخزن العُدَد) الذي يلجأ إليه الناقد الكلاسيكي، وتمثّلُ البلاغة المكتنزة في أمثلة محدّدة من " المعتمد الأدبي " السائد في كلّ ثقافة نوعاً من الموروث الذي يجعل منه الناقد الأدبي شيئاً يتوجّبُ الدفاع عنه ودفع الكُتّاب الجدد دفعاً قسرياً لاعتماده أمثولة قياسية لهم. هنا لابدّ أن تحصل قطيعة بين هذا النموذج الكلاسيكي مع النموذج الثقافي السائد بعد الإرتقاء المتعاظم لتقنيات الذكاء الإصطناعي. 

يُعرَفُ عن الذكاء الإصطناعي إعتماده مايسمّى (الخوارزميات)، ومن شأن التعامل المكثّف مع هذه الخوارزميات وبخاصة من جانب الأجيال الأكثر شباباً أن يحطّم البُنى اللغوية البلاغية المعتمدة ويطوّع اللغة لصالح لغة أقرب للتركيبات الخوارزمية ؛ وعلى هذا الأساس ستصبح اللغة أقرب لمركّب خوارزمي يقاربُ بين اللغات العالمية ويلغي - إلى حدود بعيدة - الأنماط المتنافرة الكامنة بينها، وربما سيتمّ تشكيل لغة عالمية (على شاكلة لغة الإسبرانتو) أو حتى لغة أكثر بساطة منها في محتواها الخوارزمي، ولعلّنا سنشهدُ في السنوات القليلة القادمة إحياءً لفكرة (فتغنشتاين) عن اللغة والتي عرضها في كتابه الأشهر (أطروحة فلسفية – منطقية). دعونا الآن نتخيل ماالذي سيبقى في ذخيرة العدّة المفاهيمية للناقد الكلاسيكي وسط هذا الفيض الكاسح من التغيّرات البنيوية التي ستطال اللغة بطريقة حتمية لاسبيل لصدّها من جانب القلاع اللغوية مهما ترسّخت دفاعاتها المفترضة. 

- خفوت شأن الجامعات وتعاظم دور التعليم الألكتروني: لطالما إنطلق أشهر النقّاد الأدبيين من الحصون الجامعية الكلاسيكية في التبشير برؤاهم النقدية، ولاأظنّننا قرأنا عن ناقد أدبي ذي سطوة مشهودة لم تكن إنطلاقته خارج نطاق الحصون الجامعية ؛ بل أنّ أمثاله ظلّوا متشبثين بهذه الحصون طيلة حياتهم على خلاف سواهم من المشتغلين بالقطاعات الثقافية الأخرى غير النقد الأدبي. يبدو جلياً من طبيعة التغيرات الجذرية التي طالت حياتنا خلال الشهور القليلة الماضية أنّ التغيير الجذري الذي سيطرأ على التعليم – ماقبل الجامعي والجامعي - في السنوات القليلة المقبلة هو المَعْلَمُ الأعظم الذي سيسودُ حياتنا في عصر مابعد الجائحة الكورونية، وسيمثّلُ هذا التغيير انطلاق سلسلة ممتدة من التطويرات الثورية على معظم الأصعدة وبخاصة في ميدان مغادرة المرجعية المعتمدة على نمط الثنائية الأزلية (المعلّم / المتعلّم) لصالح منظومات تعليمية يكون فيها المتعلّم مرجعية لذاته، يعرفُ متطلباته وكيفية التعامل معها بطريقة كفوءة تختصر الكثير من الوقت والجهد والمال والموارد البشرية ؛ وعليه سيكون منطقياً أن نتوقّع خفوتاً واضحا في صوت الناقد الأدبي يترافق مع تراجع سطوة الصروح الجامعية العالمية الكلاسيكية (كامبردج، أكسفورد، ييل، برينستون،،،،، إلخ).

- تعاظم مؤثرات " الثقافة الثالثة ": يبدو لي أن هذا العنصر هو العامل الأهمّ الذي دقّ الإسفين القاتل في مفهوم الناقد الأدبي الكلاسيكي ؛ وعليه سأستفيض في مناقشته مقارنة مع العناصر السابقة. 

لن يفوت المتابع المتأمل لتأريخ الثقافة والأفكار ملاحظة الإنعطافة الثورية التي حصلت في مفهوم (الثقافة) بعد أن جلب اللورد (سي. بي. سنو) في محاضرته الكمبردجية ذائعة الصيت عام 1959 الإنتباه إلى الهوة العميقة التي تفصل بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية (وهو ماتشير إليه مفردة " الثقافتان " التي صارت منذ ذلك الحين علامة مميزة ممهورة بتوقيع اللورد سنو)، ثمّ تطوّر الأمر حتى بلغنا عتبة (الثقافة الثالثة) التي صارت هي الأخرى علامة ممهورة بتوقيع الكاتب والمحرّر الأدبي (جون بروكمان).

ليس المقصود بالثقافة الثالثة - كما قد يتبادر إلى ذهن المرء أوّل الأمر - أن تكون تركيباً تخليقياً يجمع الثقافة العلمية مع الأدبية ليخرج منها بخلطة ذات عناصر متوازنة من تينك الثقافتين ؛ بل يجادل بروكمان في أطروحته الفكرية بأنّ نموذج المثقف الكلاسيكي الذي عُدّ النموذج الأعلى للمثقف الموسوعي حتى خواتيم العصر الفكتوري لم يَعُد صالحاً ليكون النموذج المنشود في عصر مابعد الثورة التقنية الثالثة التي نشهد مفاعيلها في حياتنا الحاضرة، ولم تعُد الثقافة تمتلك دلالاتها المرجعية بمقدار التمرّس في الدراسات الإغريقية واللاتينية والآداب الكلاسيكية، وكذلك لم تعد الثقافة دلالة على الإنعطافات الثقافية المبتكرة حتى لو تلبّست بمسوح الثورية المتطرفة التي شهدنا آثارها في حركات الحداثة ومابعد الحداثة إلى جانب الحركات الفرعية التي تفرّعت منها أو إعتاشت على نسغها مثل: البنيوية واللسانيات والسيميوطيقا وتحليل الخطاب،،، إلخ من مفردات السلسلة الطويلة ؛ بل صار العلم وعناصره المؤثرة في تشكيل الحياة البشرية وسواها هو العنصر الحاسم في الثقافة الإنسانية بعد أن غادر العلم مملكة الأفكار والرؤى الفردية والآيديولوجيات وصار قوة مرئية على الأرض بفعل مُصنّعاته التي لامست أدقّ تفاصيل الحياة البشرية. 

سأضع خاتمة هذا المقال ضمن هذه المقايسة المحددة: لم يعُد النقد الأدبي إشتغالاً مكتفياً بنطاقه الكلاسيكي المعهود بل صار عنصراً في نسق مركّب ثقافي شامل عنوانه (الدراسات الثقافية) بعد أن غادر الأدب ذاته مواقعه الحصينة في قارة الأدب التي خبرناها من قبلُ واستطبنا معطياتها ؛ لكنّ تغييراً عاصفاً وشاملاً سيقود الأدب - فضلاً عن الثقافة ذاتها - في السنوات القليلة القادمة نحو ثقافة جديدة عنوانها (الثقافة الثالثة) - هذه الثقافة التي ستعيد تشكيل الوجود البشري على جميع الأصعدة وبخاصة في مجالين حيويّين هما: التعليم والسياسات الثقافية.

* The Mirror and the Lamp: 

Romantic Theory and the Critical Tradition (Galaxy Series) ; Oxford University Press , 1971.

By: Meyer H. Abrams

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

النوبة الفنيّة أو متلازمة ستاندال

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

تخاطر من ماء وقصَب

موسيقى الاحد: كونشرتو البيانو الثالث لبيتهوفن

التقاليد السردية بين الأصالة والأقلمة

مقالات ذات صلة

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد
عام

أدباء: الشعر لم يخل عرشه فما زال يتشبث وأثبت بأنه يحتفظ بالقدرة على التنويع والتجديد

علاء المفرجي يرى الكثير من القراء والنقاد انه كان للرواية ظهور واضح في المشهد الأدبي العراقي خلال العقود الثلاث الأخيرة، فهل استطاعت الرواية أن تزيح الشعر من عليائه؟ خاصة والكثير من الشعراء دخلوا مجال...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram