لطفية الدليمي
هل يصح الحكي بلا أنوثة شهرزادية ؟ من ابتكر مهنة الحكي غير الأمهات والجدات البارعات في فنون التشويق والتعبير واستحضار الرؤى المدهشة يسحرن بها الرجال ويهدئن جموحهم ويحفزن مخيلة الأطفال فيهيمون في عوالم السحر والابتكار .
برزت على مر العصور حكواتيّات كنّ يستدعين إلى القصور والقلاع المحصنة لقص الحكايات وتسلية النساء المحجورات في أقبية الحريم ، وكم يمتلكن مواهب إضافية غير معلنة يمارسنها في ظل حكي القصص ، بعضها يخص تجميل النساء وأخرى لنقل الأخبار ورسائل العشق وهدايا المحبين وغيرها من مهمات التراسل ، كنّ ( مسنجر ) تلك الأزمنة البعيدة حاملاتٍ أنباء التحركات السياسية ومترصداتٍ مكائد الأعداء ، كانت الحكّاءات الباهرات شقيقات شهرزاد وبناتها هنّ من أرسين مفهوم الحكاية في الحضارات السالفة وهن اللواتي أغفلت تواريخ المدونين ذكرهن وتجاهلهنّ الرواة والحكاؤون الذكور .
ليس بوسع أحد أن يدّعي امتلاك الحكاية الشفاهية ؛ فالحكاية ملك مشاع للبشر تنتقل مع الريح والمطر وهمس النجوم وتحلق فوق الزمن لأنها مادة لازمنية تنبثق من فراديس المخيلة وتنمو وتتلون وتتغير بين أصوات الحكائين على مر الدهور حتى لاتعود تشابه أصلها ، وماكان لحكّاءٍ أن يجرؤ على امتلاك الحكاية التي عُدّت ملكاً مشاعاً للذاكرة الشعبية ؛ غير أن تحولات طالت العقود الأخيرة من القرن العشرين والعقدين الأولين من القرن الحالي ساعدت على ازدهار تقاليد الحكي بعد تبني منظمة اليونسكو الموروث الشفاهي للشعوب في بعض بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ، وشرع رواة الحكاية المحترفون بتسجيل حكاياتهم المبتكرة باعتبارها ملكية فكرية لهم وحدهم حق نشرها وتداولها وتقديمها على المسارح .
حضرت شخصياً مسرح الحكواتيين لأول مرة سنة 2004 حين دُعيت إلى ندوة الرواية في مهرجان ( القارات الثلاث ) الأسباني الذي يعقد في جزيرة غراند كناريا ( جزر الكناري ) ، وقدّم فيها حكواتيون أفارقة من الكونغو وزيمبابوي ولاتينيون من كولومبيا وعرب من مصر وشمالي أفريقيا عروضهم الممتعة مصحوبة بالموسيقى أو بالرقص التعبيري الذي يجسد مضامين الحكايات ، وكان أبرز الحكائين راوي الحكايات الأفريقي (رولاند غيتوري) مصحوباً بآلته الموسيقية الغريبة ، وراوي الحكايات الكولومبي الشهير ( نيكولاس بوينو فنتورا ) الذي ابتكر حكايات مسجلة لدى اليونسكو واستلهم بعضها من التراث الكولومبي والتراث الرافديني كقصيدة الخليقة البابلية التي طور فكرتها بإضافة أفكار من قصص الخليقة الأفريقية وقصص الهنود الحمر مثلما عمل على فكرة الخلود في ملحمة كلكامش وابتكر لها حكاية ممتعة .
استعادت المرأة العربية في الأعوام العشرة الأخيرة أمجاد شهرزاد ، ونشطت حركة الحكواتيّات بخاصة في لبنان وفلسطين ومصر والأردن وتونس ، وأقيمت مهرجانات عديدة تألقت فيها حكاءات شابات تخصصن بالادب والمسرح وفن الدمى وعلم النفس ، قَدّمْنَ على مسارح عربية وعالمية حكاياتهن المعززة بقصائد شعبية لمشاهير شعراء العامية العرب ، ولفتت الحكواتيّات العربيات أنظار العالم في المهرجانات الدولية في تركيزهن على دورين أساسيين في أدائهن المسرحي ، الأول حفظ التراث الشفاهي من الاندثار بعد رحيل جيل الأجداد والحكواتيين التقليديين وتسجيله صوتياً وفيديوياً والاحتفاظ به في مراكز متخصصة لإنعاش الذاكرة والمخيلة التي اكتستحتها الثقافة المرئية وحيّدتها ، والدور الثاني تضمين حكاياتهن المبتكرة المؤداة على المسرح قصصاً عما تتعرض له المرأة في مجتمعاتنا من عنف وقسر وسلب حقوق عبر أداء تعبيري عن نساء كافحن للدفاع عن وجودهن وحقوقهن في مجتمعات ذكورية قامعة ، وتقمّصن دور شهرزاد معاصرة تروي الحكاية لتسحر الخيال وتصون الحياة .