طالب عبد العزيز
إذا كان شيخُنا أبو عثمان بن بحر الجاحظ قد فاضل في إحدى رسائله البديعة بين الجواري والغِلمان، وأتى في (محاسنه واضداه) على كثير مما يتشابه في طوله وقصره، وخلوته وإمتلائه وحسنه وقبحه، وقوته وضعفه والى ما شاء الله من التامثلات في كتابه (المفاخرة بين الجواري الغلمان)
فقد شاقنا أن نتحدث في أفضال الأرض والماء والنخل والدنانير، بعد أن وجدنا فيما وجدنا بيننا، من أهل الأرض والماء والنخل، من البصريين، من ما زال يفاخر بين أصناف الترب والمياه والزروع، ومن ينتقي من الأرض ما يصلح لهذه، وما يصلح لغيرها، فقد كانوا وحتى وقت قريب لا يبيعون النخل والرطب والفاكهة واللبن والزبدة وسواها مما يربو في بساتينهم، فهي في شِرعتهم ومنهاجهم مثل القيان والمَشام تُتهادى.
يقتلع هذا من أم نخلته فسيلاً ويُهديه لصاحبه، ويحمل ذاك من رطبه زبيلاً لجاره، فيفرح به عياله، ومثله، يفعل صاحبُ البرحيِّ مع صاحب القنّطار، ولا يتواني صاحب النبياتيُّ عن إهداء قفة الى منتظِر المكتوم، الذي تأخر ثمره في بستانه، وتأتي المرأة اهلها وعلى رأسها برنيّة اللبن، ظاهرة الزبدة، فيضوع عطر، وتبتشر قلوب، وتبتسم شفاه، وعلى هذه وتلك وجدنا الأولين قد ماتوا، وما نحن بآخرين في اقتلاع الفسائل من أمهاتها وإهدائها الى المغرمين بالنخل، الظّانين بنا ظنَّ الخير، ولا نريد التطاول على سُنّةً سنّها من أفنوا أعمارهم هناك، غارسين وقاطفين ومُهْدين، فوالذي أحنى العرجون على أمه، وجعله أيكة للبلبل والعصفور، وصيّر الرطب تمراً في السلال والقدور، وجعل من كيس الدنانير مسرة كل ذي حاجة، ما نحن عن شرعتهم بخارجين، ولا الى ما وجدناهم عليه محرّفين .
ولكي لا يذهب أهلُ النعمِ المُحدثة في ضواحي الجنينة والجزائر والطويسة أبعدَ في تفضيلهم البرحيّ في حدائقهم على الحِلّاوي في بساتيننا نقول: ما أنتم بغارسين ولا أهل نخل، ولا تؤتمنون في المفاضلة بين أصنافه، وإن غرستم حوالي دوركم المُطرمحَ والمترامحَ منه، وسمعتُ أنكم جعلتم من البِرحيّة نخلة لا غيرها، وذهبتم في أنسابها وانتخابها ما ذهبتهم، حتى ظنَّ أهلُ بغداد والعراق أنْ ليس في البصرة العظمى إلاها نخلةً، ما هكذا والله، وإنني، لأ نتقي من أصنافه واحدةً لا أكثر، فأقول: الحِلاويُّ، وما أدراك ما الحلاويّ، هذا الذي يبشّرُ البصريين بالخير قبل غيره، فلا يكون الهنبوش إلا منه، وهو الذي تصفرُّ شماريخُه في بداية حزيران، وتصير رطباً في منتصفه، فيما شماريخُ النَّخل كلّها خُضرٌ ما تزال، وما من مَدْبَسةٍ في البصرة إلا وأخذت تمرها منه، ولا جارية في شط العرب إلا محملة به، ولا مكتب للتصدير، فروعه في بغداد ولندن وواشنطن وبرلين إلا خطبت ودّه، وخوطبت بشأنه.
وأقول: وما عُرفت البصرةُ كأكبر مصدر للتمور إلا بالحلاوي المغروس في أرض إبي الخصيب وحمدان والسراجي وعويسيان ومهيجران والسيبة والفاو وكردلان والصالحية، وكلها تأخذ من الشط ماءها، الذي من الكارون يأتي، ومن الفرات ودجلة يأتي، لا من ماء الحنفيات في حدائقكم اليوم، وما كانت شركة أندرو ويت، ومكابس بيت مارين، وبيت چوك، وبيت سلومي، والحاج نعيم الداوود، والحاج صادق المطوري وغيرها تقبل بغير الحلاوي في تجارتها، ولعل غيري يقول: وما كانت أولُ باخرة تجري في شط العرب الى موانئ لندن ونيويورك وبرلين إلا وكانت محملةً بتمور الحلاويّ، هل أسمعتُ القائمين على أمر البصرة اليوم قولاً بشأنه؟ أحسبني كذلك.