د. فالح الحمـراني
حركت تركيا آلتها العسكرية لتحقيق الطموحات السياسية للرئيس رجب طيب اوردغان في استعادة، على وفق تقديره، " الأمجاد الغابرة"، وانعاش شعبيته التي بدأت تنحسر على خلفية المصاعب الاقتصادية، والتضييق على الديمقراطيات، واتساع دوائر المعارضة، وتدمر تلك الآلية والسياسات قصيرة النظر، تدريجياً الجسور مع الجيران القريبين والأبعد، والأصدقاء التقليديين والحلفاء في الناتو، وثمة توقعات بأن هذه السياسة ستحشر أنقرة في زاوية، لتجد نفسها منعزلة ومنبوذة من قبل القوى الإقليمية والدولية، وفي طريق مسدود.
إن التطورات المتعلقة بتركيا، والاصطفاف الإقليمي والدولي الجديد إزاء ممارساتها، تتيح فرصة ذهبية للحكومة العراقية، بتفعيل كافة وسائل الضغط على حكومة أوردغان لكي تكف عن ممارساتها العدوانية على العراق، وتلتزم بمبادئ حسن الجوار والتعاون متبادل المصلحة الذي يصب في عمليات التنمية والتطوير المستدام لكلا البلدين الجارين.
والقيادة التركية التي تتظاهر بانها تدافع عن القيم الإسلامية والتراث الإسلامي لا تكف عن ممارستها العدوانية ضد الشعوب المسلمة وقتل سكانها من دون سبب ولا مبرر، وسد منافذ الماء عليها، وإنقاص سيادتها، كما تتعامل مع العراق وسوريا.
وضمن هذا السياق، وصل نشاط القوات المسلحة التركية في شمالي العراق حالياً إلى ذروته منذ عام 2014. وسابقا نفذت القوات المسلحة التركية في 2015 و 2017. وقامت بعمليات في منطقة سنجار وأنشأت قواعد أمامية مجهزة على الأراضي العراقية، حيث حاولت تدريب وكلاء محليين. وتعمل تركيا الآن على نطاق أوسع، وتحاول الحصول على موطئ قدم في محافظة دهوك ، وتوسيع منطقة العمليات العسكرية إلى الشمال الشرقي. ويقترب الجيش التركي من منطقة خزان الموصل، وهو منشأة استراتيجية، ولم يعد النهج الذي تسير وفقه خافياً على أحد، وبغض النظر عن محاولة بعض الساسة في بغداد التظاهر بعدم حدوث أي شيء غير عادي.
وعلى وفق تقرير لمعهد الشرق الأوسط في موسكو فان الحكومة العراقية لم ترد بشكل فعلي حتى الآن على النشاط العسكري التركي: "مما يشير إلى تنسيق تفاصيل العملية بين أنقرة وبغداد. ولكن، أنقرة على ما يبدو تخطت الحدود المتفق عليها، وتدلل بعض المؤشرات على أن وزارة الدفاع العراقية، قررت تعزيز وجودها في المناطق التي لم يتواجد فيها الجيش سابقاً، أو كان ممثلاً فيها بشكل رمزي". كما جاء في التقرير.
ولا تتخلى تركيا عن خططها لتحقيق انسحاب وحدة القوات الخاصة الأمريكية والطيران العسكري التي بقيت في المناطق السورية من أجل توسيع موطئ قدم لها في شمالي سوريا ، للتواطؤ مع بعض القوى المحلية في نهر الفرات وإقامة سيطرة مشتركة معهم على الضفة الشرقية لنهر الفرات، الغنية بالنفط. وحسب بعض المعطيات فان أنقرة ترعى بعض الجماعات المسلحة السورية من أجل استخدامها كورقة لتحقيق أهدافها.
وأثارت تحركات الماكنة العسكرية التركية استياءً واضحاً في العالم العربي، عبّرت عنه العديد من العواصم العربية التي استنكرت الغارات التركية على شمالي العراق. وقال الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يوم 15 تموز إن جامعة الدول العربية ترفض سلوك تركيا ضد الأمن القومي للدول العربية. واعتبر أن "تصرفات تركيا تؤثر على الأمن القومي للدول العربية وموجهة ضدها، ولا يمكن للجامعة قبول ذلك". كما أشار الغيط إلى تدخل أنقرة في سوريا ( التي تحتل مساحة واسعة من أراضيها) والعراق وليبيا.
ولم تحصر أنقرة تحرشاتها العسكرية في المحيط الإقليمي، بل امتدت إلى حلفائها في الناتو، وهذا التطور قد يجعل المواجهة الأوروبية الباردة مع أنقرة أكثر سخونة. وضمن هذه التطورات أشار مجلس الاتحاد الأوروبي على مستوى وزراء الخارجية إلى تدهور خطير في علاقات الاتحاد الأوروبي مع تركيا بسبب الخلافات حول ليبيا وقبرص ومشاكل الهجرة وقرار أنقرة بتحويل كاتدرائية في إسطنبول "آيا صوفيا" إلى مسجد . وارتهن الممثل الأعلى للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية للاتحاد الأوربي جوزيف بوريل تطبيع العلاقات مع تركيا فقط على أساس "التزام أنقرة بالقيم الأوروبية"، وأعلن أيضاً استعداد الاتحاد الأوروبي لاستخدام العقوبات على ليبيا وقبرص. ولكن من غي المرجح أن تكون أنقرة على استعداد لذلك، بعد أن تم تدمير نهج كمال أتاتورك، الساعي الى تحضير تركيا. وهذا ما سيترك تداعيات سلبية على اقتصاد تركيا، ومكانتها الدولية.
وقال جوزيب بوريل في 13 تموز: إن الاتحاد الأوروبي طالب تركيا بمراعاة القيود على إمدادات الأسلحة إلى ليبيا، وحذر من نيتها تكثيف عملياتها البحرية لمراقبة تنفيذ الحظر. وعلى صعيد آخر قدم المشرعون الأمريكيون إلى الكونغرس الأمريكي في 17 تموز مشروع قانون بشأن العقوبات المفروضة على أنقرة بسبب استيرادها نظام الدفاع الجوي S-400 من روسيا. ويُقترح فرض القيود بناءً على قانون مكافحة خصوم أمريكا من خلال العقوبات (CAATSA). وبهذا تكون تركيا قد وضعت نفسها في مواجهة عريضة مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي.
وبعد توغلها في سوريا، تحولت تركيا الى عامل لتأجيج النزاع في ليبيا وتطويق كافة محاولات فرص إحلال السلام والتفاهم بين القوى الليبية المتحاربة، وانضمت ماكنتها العسكرية الى أحد أطراف النزاع، ومن غير المستبعد أن تتحول ليبيا الى ميدان للمواجهة العسكرية بين ليبيا وقوات دول عربية.
ولم يكن موقف تركيا في صراع كاراباخ موقف داعية للسلام والتفاهم بين الدولتين الجارتين اذربيجان وأرمينيا، وعملت على التصعيد بينهما خلال تفاقم الوضع على الحدود الأرمنية الأذربيجانية مؤخراً، وتشير الدلائل الى أن أنقرة تدفع باكو إلى الحرب. إن التصعيد الجديد للنزاع بين أرمينيا وأذربيجان ، يختلف في رقعته الجغرافية والأسلحة التي استخدمت فيه عن السابق، وزاد الطين بله تفعيل العامل التركي فيه بصورة حادة. ووفقًا للخبراء ، فإن النزاع يمكن أن "ينشب" في أي لحظة، وإن تركيا تتدخل أكثر فأكثر في تأجيج التوتر.
كما فتحت تركيا جبهة مواجهة مع اليونان وجنوب قبرص بعد الإعلان عن أن السفينة التركية أوروك ريس ستبدأ عمليات المسح الزلزالي في البحر الأبيض المتوسط. ووفقًا لـوكالات الأنباء فانه وعلى خلفية نشاط القوات البحرية التركية في قاعدة أكساز في مرماريس، أعلن الأسطول اليوناني حالة تأهب، حيث تم إلغاء جميع الإجازات العسكرية ، وقطع رئيس هيئة الأركان العامة اليونانية عطلته وعاد إلى أثينا.
وانضمت فرنسا إلى التوترات على هذا الصعيد. و في لقائه مع رئيس جمهورية قبرص نيكوس أناستاسيادس انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من جديد أنقرة، وألمح ماكرون إلى فرض عقوبات على تركيا. وقال ماكرون إنه رداً على انتهاكات الحدود البحرية لليونان وقبرص، أعضاء الاتحاد الأوروبي، يتعين على بروكسل فرض العقوبات على تركيا، مشيراً الى أهمية شرق البحر الأبيض المتوسط لقبرص وفرنسا.
وأعلنت تركيا عزمها على إجراء دراسات زلزالية جنوب وشرق جزيرة ميس (كاستيلوريزو) ، وبعد ذلك حذرت وزارة الخارجية اليونانية من أن منطقة الدراسة التي أعلنت عنها تركيا هي جزء من الجرف القاري اليوناني وهذا ينتهك الحقوق السيادية لليونان. وقال رئيس الوزراء اليوناني إنه إذا لم تتخلَ أنقرة عن عملها في استكشاف الغاز الطبيعي في البحر الأبيض المتوسط ، فلن يكون أمام الاتحاد الأوروبي خيار سوى فرض عقوبات على تركيا.