حاوره : عامر القيسي
كريم كطافة الروائي العراقي المغترب غادر العراق في 31 أذار 1982 في رحلة منفى اسماها " رحلة اثبات كروية الأرض " والمصادفة الغريبة أن رحلة المنفى ابتدأت يوم الذكرى 48 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي الذي كان منتمياً له .
درت بلدان عديدة (حاله حال مجايليه) وعملت بحاراً في باخرة يونانية، فرّت بي كل بلدان المتوسط لأنزل في إيطاليا ومنها إلى يوغسلافيا ثم هنكاريا ثم سوريا ثم كردستان.. واضح اني اردت إثبات كروية الأرض بعد ان عدت إلى كردستان صيف 1983 ليواجه النظام الدكتاتوري بعد أن هرب منه قبل عام من عودته .
يقول كريم عن رحلته "ذكرتني بالبحّار الذي خرج من اسبانيا وفر الأرض وعاد من جديد إلى نفس النقطة.. كل هذا وما زالوا يقولون الأرض مسطحة"
ولِد عام 1961 في بغداد، مارس العمل الصحفي ونشر النقد الأدبي والعديد من الأعمال القصصية وأصدر روايات "ليالي ابن زوال" 2007 ، "حمار وثلاث جمهوريات" 2008، "حصار العنكبوت" و " قرابين الظهيرة" 2007 وروايته الاخيرة "13 ساعة نزهة حرة" .
هل تتفق مع تسميات من طراز " روائيي المنفى " أو رواية المنفى " التي عادة ما ترد في نقودات بعض النقاد ؟
- إذا كان المقصود بالمصطلح – الوصف بمعنى ما يكتبه المنفيون العراقيون، فهناك (رواية منفى). في المنفى عدد كبير نسبياً من كتاب الرواية، منهم من كان يكتب الرواية قبل خروجه من البلد، ومنهم من بدأ بكتابتها في المنفى. أما إذا كان الحديث يدور عن سمات خاصة لونت (رواية المنفى)، بما يعطيها ملمحاً يمكن الاستدلال عليه بسهولة، فهذا ما لا أتفق معه، لكل كاتب أسلوبه أو أساليبه وأدواته ومعها الثيمات الخاصة به التي اختارها لنصه، وهؤلاء مختلفون جداً، لا أجد قواسم مشتركة من حيث الأسلوب والثيمات بين (زهير الجزائري) مثلاً مع (علي بدر).. ولا يوجد ما هو متشابه بين (محسن الرملي) و (نجم والي).. أو بين (زهير كريم) و (كريم كطافة). لكل من هؤلاء وغيرهم عالمه.
بعض النقاد يقول إنكم في المنفى بقيتم أسرى ثقافات "ماضي الداخل " الى أي مدى تتفق أو تختلف مع وجهة النظر هذه ؟
- حديثنا الآن يدور حول الإبداع بأشكاله المختلفة، شعر، رواية، رسم، موسيقى..إلخ لا عن الثقافة بشكل عام ، على صعيد الثقافة من المؤكد حصل لكثير من المبدعين كأشخاص كما حصل لغيرهم من غير المشتغلين في هذه الحقول الإبداعية، الكثير من التطور، على صعيد التلاقح مع الثقافات المستضيفة لهم، تعرفوا على ثقافة احترام القانون، ثقافة حقوق الإنسان الأساسية، التعامل مع المرأة، مع الطفل، مع البيئة وهذا كانت بمحمولات هي غريبة عن ثقافة العراقي قبل خروجه من بلده، أما إذا كان المقصود بالسؤال شطره الثاني (ماضي المنفي) ودوره في عمله الإبداعي، فهنا أجدني متفقاً مع الصيغة العامة للسؤال، ظلت غالبية الأعمال التي انتجت خارج العراق، تنهل من الذاكرة، بمعنى آخر من الماضي. لكن، أي ماضٍ؟ الماضي بالنسبة للمبدع- المنفي يتعلق بالزمن الممتد لحين لحظة خروجه من البلد. . كل ما يأتي بعد هذه اللحظة لن يدخل في الذاكرة المهربة. لن تجد له أثراً واضحاً في عمله الإبداعي. والسبب أن المنفي بخروجه من العراق قد هرّب في حقائبه ذاكرته. الذاكرة المتوقفة عند لحظة المغادرة.
وستكون لهذه العملية (التهريب) عواقب وخيمة، ألقت بظلالها على أعمالهم بما لا يدع من يتصدى للنقد أن يميزها عن أعمال العراقيين داخل العراق، باستثناء ثيمة وحيدة حصل عليها المنفي دون مبدعي الداخل؛ هي الحرية ، إنهم قادرون على الكتابة بهامش واسع من الحرية المفتقدة في الداخل. لكن، ولأسباب تخص طبيعة النظام الاستبدادي وأدواته الأمنية – القمعية، حتى هذا الهامش المهم للكتابة، لم يستثمر بشكل جيد. والسبب أن أغلبهم بخروجهم من العراق قد تركوا خلفهم رهائن؛ عوائلهم، أصدقائهم.. وهؤلاء كانوا تحت سيطرة النظام موضوعاً دسماً للابتزاز وإسكات الأصوات.
لنفترض أن هذا كان يحصل قبل 2003، لكن، ماذا بعد سقوط النظام.. ماذا عن فضاءات الحرية الواسعة في المنفى.. ؟ قدم لكم المنفى فرصاً جيدة للتعرف على الثقافات العالمية فيما يخص أشكال ومضامين نتاجات الآخرين.. بالمقابل ماذا قدمتهم أنتم للرواية العراقية في المنفى.. وعودة للسؤال الأول لماذا لم تكتسب أعمال المنفيين ملامح أو سمات خاصة تميزها عن ما يكتب في الداخل.. كما ذكرت أنت؟
- سؤال مهم. يدفعني للتوسع أكثر في معضلة (تهريب الذاكرة). أن هذه العملية قد أعاقت من جهة أخرى، إمكانيات الاستفادة مما هو متوفر تحت أنوفنا في البلدان الأوروبية وفي أمريكا وفي أماكن أخرى كذلك، من تقنيات عالمية متطورة جداً في السرد، الشعر، الرسم، الموسيقى..إلخ قلائل منا مَن تمكن مثلاً من لغة البلد المضيف بما يجعله قادراً على القراءة والمتابعة لكل ما هو جديد بتلك اللغة، ناهيك عن الكتابة بتلك اللغة، ظلت اللغة العربية هي السائدة في طرق تفكيرنا وتخييلنا. واللغة ليست مجرد أداة توصيل، هي أخطر من هذا بكثير؛ اللغة هنا بوصفها أداة تفكير وتخييل. والأداة تؤثر في الموضوع شئت أم أبيت. أتحدث عن نفسي. أنا في هولندا منذ أكثر من 25 سنة؛ للآن لا أجرؤ على كتابة موضوع هولندي خالص. كل كتاباتي تبحر بعيداً عن هولندا إلى العراق ، المرّات القليلة التي كتبت فيها موضوعاً هولندياً، جاء تكملة وإسناد لموضوع عراقي. ومن حاول أن يندمج بشكل أعمق في ثقافة البلد المستضيف ويستمر في الكتابة، سيجد نفسه بعد حين كمن فقد المشيتين، لا هو عراقي ولا هو هولندي، مواضيعه مستغربة وغير مفهومة أو غير مهضومة من الثقافتين. وعلى العكس من هذه الحالة، قرأت كتابات لعراقيين من الداخل، لم ير أحدهم المنفى في حياته ، لم يسافر خارج العراق حتى سفرة سياحية، رغم ذاك كتبوا نصوصاً عن أمريكا وعن بعض البلاد الأوروبية. الحقيقة هذا الأمر لفت انتباهي، وجدتهم كمن يحاول القيام بعملية تهريب معاكسة لعمليتنا نحن المنفيين، أنهم يهربون الخارج إلى الداخل. لكن، أي خارج؟ وجدته شبحياً، رجراجاً، غير مستقر.. مستنداً على سماع حكايات أو مشاهدة أفلام لا عن معايشة. لن تجد فيها الصدق.
لكن هناك من العراقيين من كتب بلغات البلدان المستضيفة التي تعلموها، برأيك لماذا حصل هذا.. أهو عجز اللغة الأم عن استيعاب الجو العام للخطاب الروائي في البلد المستضيف..؟
- أنا أعرف تجارب مغاربة ولبنانيين كتبوا باللغة الفرنسية (أمين معلوف)، (الطاهر بن جلون) وغيرهم.. لكني لم أتعرف على عراقي كتب بلغة أخرى، لا أقصد الترجمة هنا. هناك عراقيون كثر ترجمت أعمالهم إلى لغات أخرى. أتحدث عن الكتابة من الألف إلى الياء بلغة غير عربية دون نسيان أننا نتحدث عن الرواية. بالنسبة للرسم والفنون الأخرى، تلك لها شأن آخر. واللغة كما أسلفت قبل قليل ليست مجرد أداة توصيل، بل أداة ومضمون تفكير وتخييل.. المشهد الذي أجده مبهراً قوياً قادرا على هز القارئ حين أكتبه بلغتي سيكون له وقع مختلف فيما لو كتبته هو نفسه بلغة أخرى. قد يفقد الكثير من إبهاره وقوته. فقط في حالة الوصول إلى القدرة على التفكير والتخييل من داخل اللغة الأخرى، هنا فقط وبتوفر شرط الصدق والابتعاد عن الحلول السهلة في التقليد؛ استطيع القول أن هناك عراقيين أضافوا لوناً آخر لثقافات البلدان التي استضافتهم، كما أضافوا لوناً آخر للرواية العراقية. وهذا للأسف بحدود معلوماتي لم يحصل. إذا أردت المنافسة داخل السوق، عليك أن تأتي ببضاعة مختلفة.
نعود إلى كتاباتك. ماهي محمولات روايتك "حمار وثلاث جمهوريات " وما اختلاف استخدام الحمار عن استخدامات سابقة لهذ الكائن في اعمال روائية عربية وعالمية معروفة؟
- أعرف أن هناك كثرٌ استخدموا الحمار في نصوصهم، وفي الغالب الأعم أُريد من الاستخدام تحقيراً حسب موضوع النص والشخص المقصود بالتحقير، رئيس، ملك، زعيم..إلخ استنادا إلى الفهم الشائع لطبيعة الحمار بإضفاء الغباء عليه، رغم أن هذا غير صحيح في الواقع. الحمار حيوان ذكي. ربما باستثناء الكاتب الاسباني (خوان رامون خيمنيث) في ملحمته الشعرية (حماري وأنا)، استخدم الحمار بوصفه شريكاً عاقلاً، أسقط عليه الكثير من الفلسفة والتصوف.
ما حاولته أنا في هذه الرواية؛ كان شيئاً مختلفاً. هناك حقيقة معاشة إلى الآن في البلدان الخاضعة لأنظمة استبدادية تنتمي لقيم القبيلة، الدين، الأيديولوجيا المغلقة؛ حيث جرى العمل على ترويض البشر لجعل سلوكهم يقترب رويدا من السلوك الحيواني ، تجد ملايين من البشر تتصرف كقطعان الحيوان محرومة من إمكانية التعبير عن سماتها الفردية الإنسانية ، قطعان مقادة من قبل زعماء، قادة، فقهاء يسيرونهم وفق مشيئتهم وأهدافهم، دون أدنى تفكير بمتطلبات وأهداف ومشاعر أفراد القطيع. وحصل في أحد (الجمهوريات الثلاث)؛ أن يحصل البشر على حريتهم بفعل احتلال اجنبي. وبدلاً من أن يخوضوا الحياة الجديدة (حياة الحرية) انتابت الجموع فوضى عارمة أدخلتهم هذه المرة في دوامة الدمار الذاتي. الحقيقة حاولت في هذه الرواية فك الاشتباك والتداخل الحاصل بين مصائر النوعين (الإنسان) و (الحيوان). لقد جعلت الحمار هو السارد لما يراه ويعايشه من شؤون البشر ومن زاويته هو. لعلها محاولة لاستفزاز أشباهي. لم أجد ما استفزهم به أكثر من أن أحول حماراً إلى راوي لوقائع حياتهم وتأريخهم وبرؤيته الحيوانية.