حنون مجيد
... على أي حال، طفقت أقول؛ بيت بمسدس ولو بهذا الحجم، خير من بيت بعصا. ورجل بمسدس كهذا، أسرع منه إلى خصمه القادم إليه بسيف. وهكذا تقبلت الأمر.
ولما كنت لم أمتلك سلاحاً يوماً، داخلني شعور بالبلبلة وأنا أتسلم مسدساً صغيراً من ولدي البكر؛ " خذه احتياطاً، فقد يفيد في سويعة ضيق" كأنه بآخر عبارته يصغّر من فعله، وهو برصاصاته الصقيلة الصغيرة حقاً، كأنه لا يصلح إلا لصيد العصافير.
ولم يكن هذا الشيء الثقيل الخفيف، إلا أشبه بطائر غريب، حلّ علينا في وقت حلّت فيه غربان كثيرة على البيوت. ولما كنا نعيش؛ عائلتي وأنا في عالم الورقة والقلم، بات طائرنا هذا في عزلة لا يشك أحد منا في أنها طبيعية، طبيعية تماماً إن لم تكن مقززة أحياناً!
غير أن مداهمة الأمريكان لبيوتنا للتفتيش على السلاح ذات فجر، أحاطنا برهبة ورعب كانا كافيين، لنفكر كلّ على طريقته، في الموضع الذي يخبئ سلاحه فيه.
توزع الجنود الذين فاجؤونا بوجودهم على منافذ زقاقنا، إذ رابط اثنان على فتحته الرئيسة التي تربطه بالشارع العام، وربض آخران عند واجهات البيوت، يوزعان أنظارهما هنا وهناك في ترقب يقظ وتحرك سريع، في حين مضى عدد آخر يطرق الأبواب ويدخل البيوت.
إنهم يبحثون عن السلاح، القطع الكبير وليس غير، هذا ما ادّعاه بعض منا، بيد أن الهلع الذي أصابنا جمد الدم في عروقنا.
كانوا بيضاً وسوداً شبه صامتين، وعيون كثير منهم كبيرة ولا سيما السود، وعيون بعضهم خلف نظارات سود. القيادة للبيض وإن حصل حديث مشترك فيبدأ وينتهي به البيض كذلك.
عندما طرقوا الباب طرقاً عنيفاً أسرعتُ إليهم، ثم أنهم لما دخلوا صالة الاستقبال وشاهدوا صفوف الكتب في مكتبتي، دهشوا وخفضوا فوهات أسلحتهم وسألوني عن هويتي.
إزاء ما حصل الآن، وقياساً على ما استحضرته أولاً من صور جنود غرباء محتلين، انبث في نفسي أمن ما، طاوعني لأفكر؛ بأنهم يمكن أن يغلقوا أي تحقيق معي والبحث عن سلاح في بيتي!
ذلك كان حلماً بسيطاً أو ساذجاً حتى، فالمهمة التي قدموا من أجلها، لا تنازعها هوية مدنية تتعلق برجل يعمل في مجال الثقافة والأدب! ويعرف من أدبائهم وقرأ لهم أكثر مما قرؤوا، وأعظم مما يعرفون.
في ساعات الصفو والأمان، لا نفكر طويلاً في الموضع الذي ينبغي أن نخبئ سلاحنا فيه. كل ما نفكر فيه، كيف نضعه في مأمن عن الأهل، وبعيد عن الأطفال، ولا يعرف به الضيوف الأصدقاء والغرباء. وليكن في جرار مكتبك أو خزانة ملابسك، في غرفة نومك أو بين مجلدات مكتبك.
لكن أن تُعرّض إلى حالة دهم غرضه التفتيش عن سلاحك فالأمر يختلف، إذ جل ما تفكر أو فكرت فيه، كانوا فكروا فيه كذلك ؛ خلف صفوف كتبك أو بينها. في الرفّ الأول أو الثاني أو العاشر منها. وراء ذلك المجلد الضخم الذي قد يثير الانتباه، أو خلف المجموعة من تلك الكتب القديمة التي قد تتوقف العين عليها لقدمها. بين طيّات الأفرشة فوق خزانة الملابس، أو في عمقها حيث تتضام ملابس فائضة من فصل الصيف أو فصل الشتاء. بل إنهم يفكرون حتى في أشجار الحدائق وخزانات مياه الحمامات، وخزانات المياه الرئيسة فوق السطوح.
وبحسب ما آل إليه وضعنا بما صار يتوالى علينا من طرق فجّ على الباب، هرعت إلى هناك ليدخلوا، مع كلمة غير ذات صدى؛ صباح الخير.
كانوا ثلاثة، طوال القامة مفتولي العضلات يتقدمهم آمرهم الأبيض الوحيد بينهم. قال بصوت عملي؛ ألديك في بيتك سلاح؟ كان صوته جميلاً وكان في الوقت نفسه حازماً. وما كان علي إلا أن أنفي بكلمة؛ لا.
ابتسم في وجهي ابتسامة غريبة ؛ نحن نبحث عن السلاح، وسحب نظرة خاطفة من على المكتبة التي فيها بعض الكتب بالانكليزية وأضاف؛ وليس عن الكتب حتى تلك التي بالإنكليزية، كذلك ليس عن الأشخاص. فتشوا إن شئتم. قلت ذلك وقلبي موزع بين أماكن في بيتي مجهولة لدي، استتر خلف أحد منها المسدس لا بدّ.
كان هرعي إلى الباب، خوّل زوجتي أو ابني ليتناول مهمة إخفاء المسدس في مكان ما. وقد بدأ يلوح لي الآن، خلف كل كتاب في مكتبتي، في كلّ زاوية من زوايا بيتي، بين ملابسي، تحت سريري، في سلّة من سلال القمامة، في الحمامات، في الخزانات، في الحديقة تحت ترابها الرخو، أو بين حشائشها وشجيراتها المختلفة، أو بينها جميعاً!
وبرغم من أنهم جاءوا في مهمة محددة، ولكن غير محسوبة النتائج، فقد كانوا هادئين يتحركون ببطء رتيب، ولا يبدو أن عليهم أن يحسموا الأمر سريعاً أو لصالحهم.
كانوا مهما استقروا إلى نتائج عملهم، غرباء تجوس الغربة في عيونهم، ولا تمتلك لغتهم أي حيوية مع غيرهم، إلا إذا كانت معهم هم أنفسهم. غير أنهم مهما كانت صورهم ولغتهم، فقد كانوا غرباء يحملون سلاحاً فاتكاً، يجوبون به بلاداً مفتوحة، وكانوا أمريكان!
طلب أحدهم بأمر من قائدهم أن يفتش غرفة النوم. صحبه ابني ورافقهما الآخر. هناك ألقى نظرة سريعة على زوجتي التي أصيبت بهلع مذ دخلوا، وحرك رأسه للأسفل تحيةً وتجاوزها نحو غرفة النوم.
أخذ يجوس بنظره أرجاء الغرفة وأشياءها الكثيرة؛ سرير النوم ،شراشفه ،أغطيته، خزانة الملابس، الأفرشة ، الأغطية المتراصة فوقها، أكداس الملابس المعلقة في الزوايا، أو المنضّدة في سلال.. وغيرها في حقائب شفافة وغير شفافة.
تراءى لهذا الجندي ، عبر هذه الفوضى والكثرة الكاثرة من الملابس وغيرها، أن الذي جاءوا لتحقيقه شيء عسير المنال، حتى أنه أرجأ البحث والتفتيش العمليين، وأرجأ أيضاً الصعود إلى الغرف في الطابق الأعلى وربما فكّر، وهو ينهي مهمته، أنه أمام أمر مستحيل.
قبل أن يغادروا، وقع نظر قائدهم على ساعة جدارية كبيرة من طراز قديم، ذات تاج مقرنص بارز، متطلع للأعلى بوقار ثقيل. قال:
- موديل قديم
- نعم هي كذلك.
- كم كان ثمنها؟
- لا أدري، فقد خصني بها صديق قبل عقود.
- لقد انقرضت، كما أحسب، هذه الموديلات في بلادنا برقاصاتها الكبيرة، ورنينها العالي كل وقت، ودقاتها الرنانة على رأس كل ساعة طوال اليوم. وأين منشؤها.
- الصين.
- أوه.. ذلك البلد اللعين.
لسبب ما رفع يداً إلى الجندي أن يأتيه بها.
- أوه.. ما هذا؟
أسرع إلى رئيسه بالساعة وهيأ سلاحه للإطلاق. ألقى الرئيس نظرة على ما يربض خلف التاج، كان هناك يقبع مثل فأر لامع صقيل، لا يعي ماذا هزّ من مشاعر وما خلط من حسابات ، تناوله ورمى الساعة الكبيرة على البلاط وقال؛ ما هذا يا رجل؟ ألم تقل أنك لا تملك سلاحاً في بيتك؟ أنت كاذب ومخادع. لقد كذبت علينا.
- إجلس هنا ولا تتحرك ريثما نكمل تفتيش الغرف في الأعلى. كان هذه المرة يشدّ يديه على سلاحه هو الآخر ويبتعد عني.
ألقيت نظرة جامدة على زوجتي التي حضرت المشهد، بينما رافق ولدي الجنديين إلى الأعلى. أثناء ذلك هبطت زوجة ابني نحو المطبخ، تحمل رضيعها على صدرها وتحاول إسكاته.
غادرت زوجتي إلى المطبخ هي الأخرى تشارك زوجة ابنها همومها، وتلقي باللوم على نفسها لأنها اختارت تاج الساعة، مخبأً لمسدس زوجها.
كدت أضحك بين جندي غريب يحتل قاعدة بيتي، وجنود غرباء آخرين يفتشون أعلاه، وعائلة مشلولة الذراع، مشتتة الذهن لا تعرف ما سوف يلحق بها. كدت أضحك بل كنت أضحك وأضحك علناً وفي سرّي، ولم أصحو إلا على كلامه الزاجر؛ وتضحك أيضاً!
لم أجبه وقد أحنقه ذلك بحسب ما خيّل إليّ، فتحولت نظرته الخضراء الجميلة، إلى نظرة شزرة قبيحة ومخيفة، وهالني ذلك. وعجبت من التحول الغريب في صورة هذا الرجل الشاب، الذي حسبته وديعاً، يمكنني أن أحدثه عن كتّاب بلده الذين عرفتهم قبل سنوات طوال، أعدد أسماءهم وكتبهم وأفكارهم إن رغب، وقد يحدثني بما لا أعرف عنهم أو عن غيرهم، الشباب مثلاً، لننته في الأخير إلى سلام وإعجاب متبادل بين غريبين، وحدّهما الأدب وحده دون سائر الأشياء!
أكرر أنني كنت حالماً صغيراً أو بدوياً خالصاً، برغم تقدمي في التجربة والعمر، وعيشي في مدينة مكتظة بالسكان مثل بغداد، وأن مكتبتي بكل مؤلفيها وكتبهم وأفكارهم، ليس بمقدورها إطلاق سراح عصفور يحمل في أحشائه خمس أو ست رصاصات يمكن ألا تكونن قاتلات.
هبط الجنديان دونما إشارة إلى وجود، أو العثور على، سلاح. لم يفرحني ذلك. ذلك أن المسدس الصغير كان ما يزال يربض في كف الرجل الغريب؛ يقلّبه ويحدّق فيه كما لو أنه طائر جريح. وبدأت أسلّم بأن حياة طائري هذا، هي الآن في يدٍ غير يدي بعد أن أفلت مني، وأن ما سوف نلقاه جراء ذلك، هو من صنع غيرنا لا من صنع أيدينا في كلّ الأحوال.
- هل فتشتما الغرف جيداً؟
- نعم سيدي.
- الأفرشة، الأغطية، الأسرّة، ستائر الشبابيك، خزانات الحمامات، سطح البيت.
- كل ذلك سيدي. حتى أننا نثرنا أفرشة السرير.
- وهل ثمة ساعات جدار؟
- نعم سيدي. ولقد فتشناها جميعها بل فككناها تماماً.
- وهل هن بحجم كبير؟
- كلا سيدي، صغيرات ومنهن ساعات مناضد لا غير.
- حسناً إنهض معنا سيدي.
- إلى أين يا عزيزي؟
- إلى التحقيق طبعاً، فأنت متلبس بجريمة حيازة سلاح ممنوع من دون ترخيص.
رمى نظرة مستهينة على الساعة المحطمة ونثارها الذي انتشر على الأرض، وأوكل أمر مرافقتي إلى الجنديين الأسودين، وأشاح عني.
طفقت أناديه لا تذهب بعيداً، فقد لا تجد لك أماً أو أباً على تلك الأرض، فقبل أربعة أو خمسة قرون لم يكن أثر لكليهما هناك. كنتم أشتاتاً موزعة، ثم غزوتم وقهرتم بقوة البارود الذي أسقط السهم المريّش الجميل، فصرتم أنتم أهل الأرض والسماء.. غزاة.. لم تكونوا ولن تكونوا إلاّ كذلك.. غزاة.
سمعتْ زوجتي حديثي معهم بأن المسدس هذا الذي بحوزتهم الآن، لا يقتل حمامة وأنه قياساً على أحجام أسلحة اليوم، شيء مضحك بل مضحك تماماً، وإنني أنا شخصياً لا أجيد الرمي، ولا أظن وجوده في بيتي إلاّ نكتة سوداء، وأنا آسف على ذلك أسفاً شديداً، لذا أدعوكم إلى مصادرة المسدس هذا، فليست لي حاجة فيه واصرفوا النظر عن الموضوع، وكلّ ما أرجوه ألاّ تعرضوا سمعتي للسوء، فأنا أولاً رجل كبير، وصحفي معروف، ولسوف يجرً أمر اعتقالي على بلدكم الكبير، شيئاً غير مريح.
دخلت زوجتي علينا أشبه بريفية يساق ولدها الوحيد إلى ساحة حرب؛ أصحيح أنهم يعتقلونك؟ والله لن أدعهم يفعلون ذلك!
- إهدأي يا امرأة نحن في حالة حرب. وهؤلاء أوباش غرباء لا يعرفون معنى للإلتماس.
كوني شجاعة وعودي إلى غرفتك، فلست مجرماً حتى تخافي عليّ.
لما وجدتْ كلامي معقولاً وحازماً معاً، وأن أحداً من هؤلاء لم ينتبه إلى إشاراتها، بأنني رجل كبير وصاحب مكتبة كما ترون، رضخت لإشارتي بالسكوت ولم تغادر مكانها، وكانتْ على يقين بأنها لن تتركني لهم.
- سلاحك هذا أدعى إلى مساءلتك من مساءلة صاحب سلاح كبير. فربما كانت حيازة ذلك للدفاع عن النفس. أما هذا فمصنوع للاغتيالات. أي بمقدورك أن تغافل أحدهم وتقترب منه الاقتراب المنشود، وتطلق على رأسه النار بلا صوت يلفت الأسماع. ولأصارحك بأن هذا أخطر علينا من ذاك.
سلّم المسدس لأحد جندييه الذي وضعه في جيب حقيبته التي يحملها على ظهره، ولا يبدو عليه أنه ملّها، والتفت إليّ بعد أن رأى زوجتي شاخصة أمامهم، وقد تسرع إلى الباب إن لم تكن تهيأت لاعتراض طريقهم.
تأملني طويلاً وما تزال فوهة بندقيته نحو صدري، سأضطر للعفو عنك. وسأعطي أوامري لجنودي لالتزام الصمت. إن عقوبتي ستكون ضعف عقوبتك، لو فشا أحدهم صفحي عنك. أشياء صغيرة قد تفعل أفعالاً كبيرة، أو تنتج ردوداً كبيرة كذلك..
خلفني وراءه وأشار بيده اليمنى؛ إرمِ هشيم هذه الساعة في سلة المهملات، إنها من صنعٍ صيني ليس غير.
أخيراً وقد أشرفت الساعة على السادسة صباحاً، غادروا الزقاق بعدما خلق وجودهم ما خلق بين الناس. تركوا خلفهم تجمعاتنا، نحصي فيها أرباحهم التي هي بالمقابل خسائرنا؛ مليون دينار كانت موضوعة في جرارة منضدة تاجر الصحيّات.. قلادة وسواريْ ذهب مخبأة تحت وسادة زوجة تاجر الكهربائيات، ساعات ثمينة تعود لعائلة بائع أقمشة، بطل ويسكي أفرغ من محتواه يعود لبقال، تحفيات خزف وخشب صغيرة تعود لمعلمة وحيدة، قطعة من فضة مستديرة مؤطرة بإطار مربع من عاج نادر؛ منحوت عليها صورة زعيم وطني، تعود لمعلم يساري شيّعت جنازته قبل أول أمس، مسدس صغير، وساعة جدارية مهشمة تعود لصحفي كبير.