لطفية الدليمي
كم أضاع علينا الدرس البلاغي من قيمة جوهرية مخبوءة بين ثنايا كلمات وعبارات وأبيات شعرية إعتدنا ترديدها لمجرد تكريس القيمة الشعرية دون القيمة العملية! . لنتأمّل الأبيات التالية التي غالبًا ماتنسبُ إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي:
أمطري لؤلؤًا جبال (سرنديب) وفيضي آبار (تكرور) تبرا
أنا إن عشتُ لستُ أعدَمُ قوتـــــــًا وإذا متُّ لستُ أعـــدَمُ قبرا
همّتي همّة الملـــــــــــــــــوك ونفسي نفسُ حرّ ترى المذلّة كفرا
أتساءلُ كلّما قرأتُ هذه الأبيات الساحرة: ما السرّ الخفي الذي يجعل المرء يترنّمُ بهذه الأبيات ويعيدُ تكرارها بنشوة طافحة؟ السبب - كما أرى - هو أنّ الحمولة البلاغية فيها لم تكن مطلوبة كقيمة لذاتها بل جاءت أداة أو واسطة لتمرير درس أخلاقي ونفسي أراه أمثولة كبرى لنا ولأمثالنا في الحياة.
الأمر ذاته أراه يصلح مع بيت شعري آخر صرنا لكثرة ما لاكته الألسن نردّده بطريقة ميكانيكية من غير تفكّر في القيمة الكبرى المخبوءة فيه :
أتحسبُ أنّك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ
هذه الكلمات القليلة هي كشّافٌ رمزي يمثلُ جوهر الجهد الفيزيائي العظيم الساعي لتعشيق الحوادث في العالم الكبير (على مستوى المجرات الكونية) مع مثيلاتها في العالم الصغير (على المستوى دون الذري) في صيغة إطارية واحدة، وفي الوقت ذاته فهي تسبغُ على الإنسان قيمة جوهرية عليا عندما تشيرُ إلى (الضوء المخبوء في أعماقه) – هذا الكنز الدفين الذي يعيشُ أغلبنا ويغادرُ هذه الحياة غير مدرك للمدهشات الكامنة فيه والتي تنتظر من يبلغ مكامنها الدفينة.
تسود قناعة علمية بين دوائر المختصين بمبحث علم النفس الاختباري الخاص بدراسة ظاهرة الإبداع والأشخاص الخلّاقين مفادها أنّ عدد الاحتمالات الممكنة لحصول تشبيك بين خلايا المخ العصبية يفوق عدد ذرات الكون!! . مامعنى هذا وماأهميته العملية؟ تنبعُ أهمية هذه النتيجة من مفهوم اللدونة الدماغية Cerebral Plasticity : كل خبرة بشرية هي تخليق لنمط خاص من الاشتباكات العصبية الدماغية وهي في النهاية اختيار لواحد من الامكانيات المحتملة للتشبيك العصبي الدماغي، وهذه فاعلية شخصية تعتمدُ على رغبة المرء وشغفه في ولوج عوالم غير مستكشفة بالنسبة له أو لسواه، وقد ثبت بدلائل اختبارية مؤكدة أنّ هذه الفاعلية لاترتبط بعمر المرء، وهنا سيكون تساؤلنا التالي بالغ الاهمية: كيف السبيل لإدامة وتخليق اشتباكات عصبية غير معهودة؟ هناك الكثير من الأمور المتاحة: تعلّم لغات جديدة، المشي لمسافات طويلة، الإنكباب على الأنظمة الرمزية (الرياضيات المتقدّمة مثالًا)، العزف على آلة كلاسيكية، ولوج عوالم تخييلية (عندما نكتب رواية مثلًا)، التمرينات التأملية الخاصة بالزن والبوذية، إلخ. الموضوع ممتع ومهم من الناحيتين البحثية والإختبارية؛ فهنا يكمنُ جوهر العملية الإبداعية في كلّ ميادينها، فضلا عن أننا كلّما نجحنا كأفراد في تخليق اشتباكات عصبية دماغية أكثر فسيكون بوسعنا إبعاد شبح ألزهايمر عن حياتنا.
ليس بعيدًا ذلك اليوم الذي سيكون فيه الحفاظ على مستوى عالٍ من اللدونة الدماغية للأشخاص واجبًا حيويًا من واجبات الدولة تجاه مواطنيها لأنّه سينعكسُ إرتقاءً غير مسبوق في نمط الحياة وجودتها؛ ولكنّ الأمر الأكثر جوهرية هو ثقة المرء بالامكانيات السحرية لذلك (الضوء الكامن في أعماقه)، وأن يجتهد لبلوغه طوال سنوات حياته.
تلك مهمّة تستحقُّ شرف المحاولة لأنها تحوّلُ الحياة من عبءٍ لايُطاق إلى دهشة يومية لاحدود لكشوفاتها المذهلة.