ميثم الحربي
يشقُّ نَصُّ "المعزوفة" للشاعر عبد الرحمن طهمازي، طريقه بقوّة الأفكار بعيداً عن التبذّل البلاغي والدّبق العاطفي.
يسبق النصَّ إهداءٌ وتقديم. فهو إلى "الشاهد والمشهود"، ويختار لتقديمه مقولة كولنجود: التاريخ هو الحاضر.
تبدأ معزوفة طهمازي من لحظتين: الترميز المبثوث في الإهداء، والإحالة المشحونة في المقولة. وسيُشكّلان معاً – عبر الاستمزاج – مهمازاً يقود طبقات المعنى الثاوية في المعزوفة لتجليةِ مفادها النثري.
إنّ حضور المهماز يُمثل ظاهرة نصية في شغل طهمازي؛ فهو إنْ لم نستبنه صُراحا فسيتكفل استهلال نصوصه بذلك. وقد يظنُّ ظان أنها سمة درج عليها الشعراء في العصور الحديثة وبالتالي فهي في مُتناول التقليد والنّسج على المنوال.. لا؛ إنها مُباحة لهواة التقليد، ومُتاحة لمن ينحتون العمل الفني بِقَصدٍ "ظاهراتي".
فالحقيقة عند الظاهراتيين تبدأ من مُستوى معرفي، حيث تغدو مُعبّرةً عن استعداد البسالة الفردية لتكتشف الوجود عبر الإنصات إلى لغته ولتصل – وهذا سرها الدّامي – إلى إشراقة السلوك الحرّ!
ومن المُسلّم به أنّ الشاعر هو أحد روافد المعزوفة؛ ولكنّ الأهم هو أحد كائناتها التي تتحرّك في "رمادة مترامية".
يتحدث كائن النص من تضاعيف المشهود، وهي تسمية تقابل: المشهد أو الحاضر. فهو يقف في قلب الطوفان، وربما تصلنا هدهدةُ كلماته من الأنف.. ذلك الأمل الباقي من حكاية الغريق الذي حيّانا وذهب إلى الغسق. وبوصف المعزوفة حافلة بدلالات مُركبة؛ فهي أضاميم لوقائع، وأحداث، وتقاطع مصائر مدفوعة إلينا بحركة الفعل المضارع.. هذا الفعل الذي يدخلنا معه إلى حرارة التجربة وملموسيتها. وما التجربة هنا سوى: أوهام أفراد عن أنفسهم، وحشود باطلة، وحيوات مرصوفة بالأضاليل.. إنّ الفعل المضارع يعرض الموضوع الذي نحن قطعة منه؛ لنلمس بؤسنا في حياة صادف أنها – على حين غرة – كانت حياتنا!
"ها هي المعزوفةُ تفلتُ من الأسماع على حين غرة
وتستحوذ على صمتنا.
صرنا نتمرّن على التذكار من الصيوان. إلى الطبل
ثُمّ إلى الطبّال"
ومن دلالات التحوّل من منطقة الشاعر رافد النص إلى أحد كائناته، ها هو في المعزوفة يندمج معنا من خلال الضمير: نا، في "صرنا"، والنون في "نتمرّن"، فالضمير والنون الجامعان يكوّنان معا "نون الهضم" والاندغام والذوبان في مشهد المعزوفة السائر في أدغال السرطان القيمي العميم.
وإذا فهمنا أن الفعل المضارع من حصة المشهود على هذا النحو، فإنّ الأمر، والصيغ الاستفهامية في المعزوفة من حصة الشاهد، فيما ستتكفل دوائر الفعل الماضي بحمل أعباء النواح، وقوارير المراثي.
"تبا لك يا خصيم السياسة والطفولة الجانح.. أهذا
وقت اللهو أيها الفاحش؟!
الحمامةُ التي طال ساقاها لن تعرف المشيَ المليح..