محمد أمين
يستكمل محسن الرملي في أحدث روايته "بنت دجلة"، الصادرة عن دار المدى، حكايات أبناء شق الأرض "إبراهيم قسمة وطارق المندهش وعبدالله كافكا" أبطال روايته "حدائق الرئيس" في جزء ثانٍ لا يقل روعة ولا إبداعاً عن أوله.
يستكمل حكايات ما بعد الغزو الأميركي للعراق وتأثيره على المجتمع العراقي وتقسيمه وتفتيته مادياً ومعنوياً وانعكاس ذلك على أبناء العراق وأفكارهم وتوجهاتهم.
بنت دجلة هي الشيخة قسمة بنت إبراهيم والتي تأخذ مساحتها الأكبر في الرواية بعد تقديمها في حدائق الرئيس لعلاقتها بأبيها، ليفرد لها الرملي هنا مساحات عريضة يستكشف فيها أبعاد شخصيتها المعقدة والمركبة الناتجة عن صراع داخلي بين الكبت والحرية، بين الفرض والاختيار، بين الواقع والخيال. قسمة تمثل شريحة أنثوية من المجتمع العراقي تطمح في الانتقام من ماضٍ أتى على نفسها وأهلها، ماضٍ قد مضي ولم يخلفه حاضر أحسن حالاً ولا يبشر بمستقبل أهون من حاضره.
على الجانب الآخر، يجد الشيخ طارق نفسه، فجأة، يدخل عالماً جديداً عليه، يخالف أعراف مجتمعه وعشيرته، وأبواباً جديدة تنفتح في وجهه، بقدرة تفوق أقصى أحلامه، فينجرف معها مدعياً قدرة غير حقيقية على التأقلم مع الواقع الجديد، ليكتشف بأنها خدعة، كادت أن تنطلي عليه، لولا بقايا الخير الماكثة في أعماقه، ليتشبث بها أخيراً وقبل فوات الأوان.
نجم الرواية، الفتى السوداوي المكتئب عبدالله كافكا، والذي يواصل حواراته ومنولوجاته المرعبة المليئة بالرؤى الفلسفية العميقة، والتي يصف بها حاله وماضيه من حروب خاضها وأسر وقع فيه وتجارب مريرة عاشها، لتشكل الثقب الأسود القاتم الذي يحيا داخله، ويرفض الخروج منه إلى أن ينتشله حبه الأوحد ليعيده إلى مصاف الأحياء مره أخرى.
يرسم محسن الرملي لوحه فنية بديعة للمجتمع العراقي في تلك الفترة بمختلف طبقاته وشرائحه المتعددة، رجل الأمن الداهية المتحكم في الأمور، الشاعر البوهيمي المثقف الناقم على الأوضاع، شخصيات هامشية من المجتمع، عانت ويلات النظام السابق، رجال العشائر والقبائل وأتباعهم وحياتهم وطموحاتهم، رجال الدين ونزعاتهم الدنيوية.
من أمتع أجزاء الرواية، الحوارات الثنائية بين براء الشخابيطي وعبدالله كافكا، والتي تجمع بين السوداوية والبوهيمية في ديالوجات عبقرية لوصف الإنسانية جمعاء، وصراعات المجتمعات والبشر في الحياه.. من أجل الحياة.
محسن الرملي أديب قدير ويمتلك قلماً واثقاً وقادراً على السرد والوصف والتخيل ببراعة شديدة، ليخرج لنا رواية تكشف خبايا النفوس وتعري القبح البشري وتلون أحلام البسطاء.