ستار كاووش
لم أكن أعلم أن المطر سيفسد كل شيء، مع ذلك كانت هناك نفحات من الجمال تخللت هذا اليوم الذي استطعت أن أخرج منه بشيء مفيد.
ابتدأ الأمر حين قررت الذهاب الى القرية التي نبتتْ فيها القصائد كما تنبت الأشجار، والتي تبعد عن مرسمي ربع ساعة بالسيارة. عادة ما تجولتُ في مناطق محاذية لهذه القرية، لكني لم أدخل إليها أو أتطلع لتفاصيلها عن قرب، كنتُ في كل مرة أؤجل ذهابي لرؤية طريق الشعر، حيث تقف القصائد التي كتبت على مجموعة من اليافطات بين حقول الذرة ومزارع اللفت وشجيرات التفاح، وتمتد حول جداول الماء الصغيرة التي تحيط كما الأسيجة بأبقار الحليب الضخمة المرقطة باللونين الأبيض والأسود وهي تسترخي بكسل أخضر وطري، وهي بهذا تحاكي العشب الناعم الذي يحاذيها ويمتد الى نهاية البصر.
ففي مشروع أسمته بلدية قرية أودخا (طريق الشعر) انتصبت هذه اليافطات التي إحتوت على ثماني عشرة قصيدة، تتغير كل موسم بأخرى جديدة لشعراء آخرين من ذات المقاطعة، وقد توزعت هذه القصائد على أرض القرية الصغيرة التي تغفو بين مزارع مقاطعة فريسلاند شمالي هولندا، وتمددت مثل قلادة ريفية على طريق طوله عشرة كيلومترات، يبدأ وينتهي بذات النقطة، بعد أن يتداخل ويتقاطع مع المزارع وبيوت الفلاحين وحقول الذرة.
قطعت الطريق الذي إبتدأ بمزارع مفتوحة وبحيرة مليئة بمراكب صغيرة ملونة، حيث انغمس في الماء عدد من الصبيان والبنات وهم يمارسون السباحة وبعض الألعاب المائية. أكملتُ طريقي لأمر بمحاذاة ثلاثة من صيادي السمك، ركنوا سيارتهم في منعطف جانبي وتركوا باب صندوقها الخلفي مفتوحاً بإتجاههم كي يتمكنوا من احضار ما يحتاجونه بسهولة، وقد إلتمعت قربهم بعض قناني النبيذ وإرتفعت حولهم رائحة سمك الماكريل المدخن. جلسوا متقاربين بعد أن غمسوا سناراتهم في طرف البحيرة، واستسلموا لهدوء المكان الذي بانَ عليه الشحوب. بعد بضع خطوات تحول شحوب المكان الى شيء من العتمة، حيث أخذت السحب الرمادية تتحرك في الأفق.
انعطفتُ نحو اليمين، فإنفتح أمامي طريق مليء بالأزهار البرية ذات اللون البنفسجي والوردي الفاتح، والتي تسربت من بين الأحراش الخضراء لتحيل المكان الى واحدة من لوحات ووترهاوس الغنائية، وقد أحاطت ذلك من الجانبين سيقان نبات الكاتيل التي انتهت بإسطوانات صغيرة ذات لون بني حالك تشبه السيجار، نسميها في العراق (النفاش) وقد تناثر بعض رذاذها على المكان، وفي نهاية هذا المنعطف ظهرت يافطة كُتبتْ عليها إحدى القصائد، وقفتُ قليلاً هناك، قرأت القصيدة التي كان عنوانها (يومٌ مثل هذا اليوم) وتأملت السماء التي بدت أكثر عتمة وهي تنذر بشيء مفاجئ، وأطلقت خطواتي كي أكمل طريقي نحو يافطات الشعر المتبقية، فمضيتُ في جادة ضيقة انفتحتْ على مزرعة ظهر فيها فلاح يدفع بيديه عربة قش صغيرة، في حين انشغل ابنه الشاب بقيادة جرار زراعي محاولاً إخراجه من خلال باب سياج المزرعة. مضيتُ أكثر، فبان لي طريق محاط بأشجار البلوط العالية، وقبيل وصولي لهذا الطريق، بدأت شآبيب المطر بالسقوط وكأنها سلاسل ذهبية تلمع بتأثير الخلفية التي شكلتها حقول الذرة الصفراء. هرولت سريعاً خوفاً من المطر الذي يتساقط هنا أيام الصيف بشكل غريب، لأصل الى شجرة كبيرة وألتصق بجذعها المرقط الذي علته الطحالب الخضراء، حتى ذهبت السحابة المعتمة بعيداً نحو الشمال وأطلَّت الشمس من جديد بوجهها الطفولي من بين بقايا السحب الصغيرة المتناثرة في الأفق، حيث تحول المشهد الى واحدة من لوحات جورج سوراه التنقيطية. نزعتُ التيشيرت وعصرته لأتخلص من ماء المطر الذي تشبع به، واكملت طريقي وأنا أهز شعري يميناً ويساراً مثل جرو صغير غطس تواً في بانيو الحمام.
عدت لطريق الشعر وأكملت مروري على اليافطات التي انزرعت هنا وهناك، مثل شجيرات صغيرة تكبر مع كل قراءة وتزهر مع كل زيارة، حتى وإن كانت عابرة... مثل هذه الزيارة.