طالب عبد العزيز
لم تبلغ الكلماتُ تمامها بعد، وسيظل الولد الذي استقامت أداته تواً، يكتب رسالته الى حبيبته، حتى ساعة متأخرة من الليل، ومع إطلالة الشمس الأولى، سيكون قد أودعَ حروفه المظروف الملون بالأحمر والأزرق، لا ليذهب بها الى دائرة البريد، في المدينة،
إنما ليجعلها وسط قبضة من الطين، عجنها وكورها، وليقذف بها بعيداً، علّها تقتطع حيزاً في الريح، وتبلغ ضفة النهر الثانية، هناك، حيث تنتظرُ صبيتهُ، التي انتقاها النهرُ من الغيم والمطر والكركرات. البنتُ ذات النحر الأبيض الطويل ستجد الحجةَ بالغة لوجودها بين النخل والأفياء والظلال، فهي تمرّنُ صنارتها لتصطاد سمكةً حيناً، أو تجمع الحطب لموقد أمها، وقد تطول قامة الصبر بها لتظل تبحث عن عصفور صغير، ترمم به أحلامها الطائرات. ولأنه ما زال في اضمامة الأمل بعد، فقد تماسك جيداً قبل أن يقذف، وعبر النهر، بقبضة الطين، التي علقت بالسعف المتشابك البعيد، هل تسلمت الرسالة؟ هل تُفلح العاصفة باسقاطها؟ وإذا ما حاولت صعود النخلة، من سيبرر لها تمزّق ثوبها هناك، في السماء المنحوتة مما يلتفُّ ويدلهم بين العراجين، في الصباح الماطر هذا؟
بعد خمسين عاماً، يأتي الصبيُّ، الشاعر المكان ذاته، يتحسس ذراعه التي كانت تكتب وترسل الحروف والجمل، عبر الريح والموج الذابل في الصباحات، حيث تكون كلمات العشقُ مشفّعةً بالمظاريف الملونة دائماً، يأتي الى حيث أسقطت العاصفة قبضة الطين برسالتها الخالدة، وحيث تبعثرت الحروف الأولى لأوجاع القلب، وقد هدأت رعدة الجفن، وانطباقة البطن على الوسادة، ومعها ذهب السهر وإنتقاء الفراشات وهمدت الى غير رجعة ساعات الفجر، وعبر النهر الذي ضاق واتسع عشرات المرّات، سيمدُّ بصره الكليل بعيداً، عبر نظارة سميكة، حيث لم يعد هناك نخل، وليس ثمة صبيّة تجوس أفياءً وظلمات، فقد أقام الرجل الذي اشترى الأرض منزله بالطابوق والأسمنت والحديد، سوّره بالورد الجهنمي، الكاذب وبالدفلى، وذهب كلٌّ الى قلعة مصائره، الصبية الى شيء مجتزأ تسمّيه السعادة، لعله بيت الزوجية الذي ببرية الزبير، والصبي الشاعر الى حيث الذكرى، ملمس الحرير المستعار، يعبث بما تبقى في كفه من مسبحة الزمن، متكأهُ جذع نخلة وشيء من قصب وحلفاء، على نهر ظل يضيق، ووسط صخب تحدثه مركبات ظلت تقترب، أخذ جُماع جسده، لملم نثار روحه، التي فجعت بالمكان وبكل ما كان قائماً هنا ذات يوم، واختفى.
لا يبدو فقد رسالة أولى أمراً ذا بالٍ بحساب الحقائق، فهذا باشلار يقول:" ليست هناك حقيقة أولى، إنما هناك أخطاء أولى ليس إلا" لكن، بين ما فقدناه من حقيقة وكلمات في رسالة الصبيِّ الشاعر وما فقدناه في المكان مساحة لتلقي الفواجع، إذ لم يكن الصبي هو الأول قطعاً، بين النخل، وعلى الأنهار، الذي كتب رسالة وأودعها قبضة الطين، هناك، العشرات والمئات، الذين أطبقوا قبضاتهم على الطين وعلقت رسائلهم بين السعف والعراجين، في فسحة السماء المدلهمة تلك، وظلوا ينتظرون ردود حبيباتهم، دونما ساع افتراضي يأتي، وقد تكون العواصف أسقطت بعضها، ومزقت الريح والامطار والشموس المتعاقبة الكثير منها، نحن، لا نتحدث عن قلوب صغيرة فجعت بالضياع، إنَّ ما يفقده الإنسان في دائرة جسده وروحه أكبر من حقائق أولى، وأوسع من أخطاء تتكرر، هي حياتنا، التي لا تسترجع بالوقوف على نهر، ولن نكون قادرين على استعادتها، ما يسقط من شجر أيامنا لا يعوض بالانتظار، وكل ما كان لنا من مباهج وأوجاع، ما تكشّف واختفى في كتاب الريح والشمس، وتمرأى في غابة النخل الأولى أخلد مما نكتبه ونستيعده.
كانت الجادةُ بترابها الازلي وبجسورها الثلاثة مادة ذهابي وإيابي كل يوم، وهي الدالة على الذاهبين والعائدين المتقاطعين معي في رحلة الوقوف والانتظار، يوم كان السرور أن تملك قدماً توصلك للنخل، وتعود بك محملاً بالعنب والقثاء والرطب، يوم كانت الارض حاجة في ملمس الروح، عبر قدم تتشقق، والناس من رفقة وطمأنينة، حفاةً يمشون الى بساتينهم، موقنين بان أقدامهم في التراب خير لهم منها بالنعال، في تواصل مع ما يحبونه ويتنعمون به، كنت اعرفهم جميعاً، الذاهب والآيب، المسرور والحزين، محدودب الظهر ومستقيمه، حامل التمر وبائع الحطب، أعرفهم واحداً واحداً .. كان التراب امينا على الاسماء واكثر فصاحة، وكانت أبجدية الوصول والعودة معلومة لدى الجميع، ولانتقاء الظلال في الظهيرات الحارة معنى في الرفقة واختراع الملاذات، أما وقد فعلت البلدية فعلتها، وجاءت بالاسفلت بديلاً، فهذا ما يروّع ويخيف، لقد قضمت آلتها الحديد جذوع الجسور والقناطر، وسوّت ظهور واكتاف الطريق بالحجر والاسمنت.
عن أي جادةٍ للمباهج أتحدث؟ عن أيّ تراب مقدّس باقدام الطفولة سيقوّم لغتَه رجلٌ مثلي، وقد همد كل شيء، واستعصى على التأمل كل حرف. من التراب المندرس ذاك، وبأبجديات لا حلول لرموزها، وبطفولات أبدية لا يروّضها إلا الله والموت اخذتُ قبضة الطين التي اودعتها رسائلي الاولى، أبكيها، أتلقتها السماء أم احتوتها العراجين.