اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناديل: بيـــروت

قناديل: بيـــروت

نشر في: 15 أغسطس, 2020: 06:12 م

 لطفية الدليمي

بيروت مدينة الآلهة ودوار عبّاد الشمس والوعود العائمة على ضجيج الطوائف وهمهمات الشعر ، المدينة التي يتشهى لثم أصابعها الكتّابُ والمغنون والحالمون بالحرية والتواقون للنجاة مذ كانت سيدة الكلام وباعثة الأمل في الحياة العربية المكتظة بالتحريم والحظر ، كانت بيروت تمررُ نداءات الحرية في كتب ومطبوعات وأغنيات جبلية وأهواء حضارة تمزج بين جوهر الحضارات وعشق الحياة .

بيروت مثل سفينة الكنوز تلك التي تحدث عنها كافافيس وغادرت إلى مجاهل البحر وبقيت أضواؤها تبوح بوعودها الكونية ، ولبثت تغوي المولعين بوعودها وهي لدى الحالمين المغرمين بها سفينة داهمتها أنواء السياسة وشهقات البحر فجنحت إلى سفح جبل لتنجو بمن فيها ومن يرنو إليها ومن ينتظر بشائر قيامتها . السفينة التي إسمها بيروت رست عند منعطفات التاريخ البشري الأكثر أهمية ، تقاسم حمولتها ربابنة فينيقيون وكنعانيون ورومان وآشوريون وبابليون وأغريق وفراعنة ، وفي غابة أرزها قتل أنكيدو وكلكامش الوحش خمبابا رمز جبروت كل سلطة غاشمة و حارس غابة أرزها .

بيروت ، بيروتس مدينة جوليا أوغسطس السعيدة ، مدينة مدرسة القانون العالمية التي قصدها عشاق الحقوق والقانون من جهات الدنيا ولبثت مرجعاً لطلاب العلم منذ العقدين الأخيرين قبل الميلاد حتى العام ثلاثمائة بعده ، لن تفنى بيروت التي تولّع بها الرومان والأغريق وتاقت إليها ممالك العصور القديمة وبقيت تقاوم كل غازٍ وكل فاتح حتى باغتها الزلزال المروع في القرن السادس الميلادي و أفنى ثلاثين ألفاً أو أزيد من سكانها ؛ لكنها لم تنطفئ ولم تأفل بل أعادت صياغة أمجادها ماحية آثار غزاتها من رومان وآشوريين وبابليين وفراعنة ، وتألقت بجمالها الفينيقي وارتدت حرير صيدا المصبوغ بأرجوانها وازدهت بين الحواضر العتيقة بأنها معشوقة البحارة وسيدة الموانئ وغاوية الجيوش ومغرية الأساطيل الغازية ومستدرجة سفن التجارة وقوارب المهربين وسفن الهجرة إلى أقاصي القارات بحثاً عن فرصٍ للأمل أو نجاة من ملل القرى أو خلاصاً من عشق مخذول .

في بيروت عرفت معنى أن تكون المدينة مرفأ وأن تبحر منها السفن ومسافرو العالم ، وفي بحرها عرفت كيف تزلزل الرياح السفن التي سنسافر في إحداها إلى الاسكندرية ، الرياح كانت مختلفة عن رياح بلادنا التي جففها القيظ وسكنها عبير القمح وأريج طلع النخيل ، في مرفأ بيروت تعلن الرياح بغتة عن نفسها ؛ فهي أنثوية شبقية تارة وسماوية منذرة تارة أخرى ، تبدأ هيّنة مُداعِبة ثم تهتاج وتهدد السفن الراسية أو تلك التي تزمع الرحيل إلى مجاهيل البحار القاصية .

بيروت التي يعانقها الجبل وتداعبها زرقة المتوسط هي التي صاغت أحلام الشعراء والكتاب والفنانين من غنج الحضارة وتلقائية القرى وسلسبيل الينابيع وهمهمات الأرز المخلّد ، هي المدينة الحية الباقية بقاء أرزها وسنديانها ، التي لا تتعب من جدل ولاينال منها حريق ولم تهزمها حروب الطوائف ، هي جمرة الحياة التي لايخمد وهجها و لاتفنى ولا تغيب من الرؤيا إلا لتضيء حلماً ولاتستفيق من الحلم إلا لتصير أسطورة حريتنا العتيقة وسبيل رؤيتنا الملهمة طوال عقود .

بيروت : لن أبكي جمالك فأنت صانعة جمال متجدد وسيدة مدن الشرق العتيقة بعمر التأريخ المدون ، لن أرثي تأريخك فأنت مدينة العالم كما وصفك ( ربيع جابر ) في روايته البديعة عن جوهرك اللامرئي ، ولأنك حية تبقين شاهقة في حاضرك كما كنت ملهمة المفكرين والثوار والمخذولين والعشاق والمهزومين والمنتحرين أيضاً ، ولطالما جعلناك في توقنا للنجاة علامة وصول تأخذ بيدنا نحو ينابيع الحرية ونحن نخوض في مستنقعات خرابنا الوطني ومواجع حياتنا العربية الوعرة .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الشرطة المجتمعية: معدل الجريمة انخفض بالعراق بنسبة 40%

طبيب الرئيس الأمريكي يكشف الوضع الصحي لبايدن

القبض على اثنين من تجار المخدرات في ميسان

رسميًا.. مانشستر سيتي يعلن ضم سافينيو

(المدى) تنشر جدول الامتحانات المهنية العامة 

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram