شيرزاد عادل اليزيدي
نظمت مؤخرا صحيفة "كردستان نوى" سلسلة محاضرات تحت عنوان "كردستان في مفترق طرق أحداث الشرق الأوسط" لتلمس موقع كردستان بأجزائها الأربعة ودورها في هذا المخاض التغييري العاصف الذي تعيشه المنطقة.
وتوخت المحاضرات التي امتدت على مدى يومين رسم لوحة بانورامية للمشهد الكردستاني والشرق أوسطي العام الأمر الذي نجحت فيه إلى حد كبير، ولعل إطلالة سريعة على أسماء أبرز المحاضرين تكفي لمعرفة مدى أهمية تلك المحاضرات القيمة وغناها المعرفي ،حيث شارك مع حفظ الألقاب فريدون عبد القادر وآزاد جندياني وفريد أسسرد ويوسف زوزاني ومحمد أمين بنجويني وغيرهم على أمل أن تشكل بادرة "كردستان نوى" هذه بداية لعقد سلسلة فعاليات مشابهة أحوج ما نكون لها في هذه المرحلة التأسيسية العاصفة في الشرق الأوسط. فالمشهد يتطور ويتبدل بشكل يومي تقريبا في المنطقة، ومن الأهمية بمكان أن نرسم ونحدد تصورنا الاستراتيجي الكردستاني للتعاطي مع هذه الأحداث الجسام ومواكبة إيقاعها السريع خاصة وأن الدول المقتسمة لكردستان تقع في عين هذه العاصفة من سوريا وصولا إلى تركيا حتى أن المنطقة تبدو مقبلة على إعادة رسم جغرافي لخارطتها، فهي في مخاض شبيه بما شهدته بدايات القرن العشرين إبان انهيار الإمبراطورية العثمانية والتقسيمات الاستعمارية التي رسمت الشكل الحالي لدول المنطقة.
انهيار المنظومات الاستبدادية الحاكمة في غير بلد من بلدان المنطقة إثر موجة الانتفاضات الشعبية، هذا الانهيار المصحوب بتفجر الاحتقانات والاحترابات الأهلية الطائفية والمذهبية والقومية يطرح مسألة الوحدة الوطنية الدمجية والقسرية في هذه البلدان على المحك، فالوحدة في النهاية ليست أقدس من البشر، وما لم يتم التوافق على بناء دول تعددية متصالحة مع مكوناتها وممثلة لها فإن خيار الانفصال وتفكيك الوحدات المعطوبة يبدو علاجا لا بد منه لتفادي التكاذب الوطني والإيغال في التقاتل والتنابذ باسم الحفاظ على الوحدة والذود عن حياضها .
وبطبيعة الحال فان القضية الكردية هي في قلب هذه التحولات كونها قضية أمة مقسمة بين أربعة بلدان رئيسية ومأزومة في الشرق الأوسط، بل يمكن القول إن اعتماد حلول ديمقراطية وحضارية لهذه القضية في البلدان المقتسمة كردستان يشكل محكا لمدى جدية وبنيوية أية تحولات ديمقراطية مرتقبة في هذه الدول كما هي الحال مثلا في سوريا التي باتت الآن محط أنظار العالم بأسره، ما يضفي أهمية استثنائية على غرب كردستان ( كردستان سوريا ) كونها تخوض غمار ثورة تحررية ديمقراطية ضد الاستبداد البعثي، فالقضية الكردية الآن باتت رقما صعبا ووازنا في المعادلة السورية ما يعني بالضرورة أنها باتت مطروحة بإلحاح على الأجندة الدولية.
تبدو كردستان سوريا الآن في صدارة المشهد الكردستاني تبعا لما أشرنا إليه من تحول سوريا كلها إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية وتحولها إلى ما يشبه مفترق الطرق لموجة التغييرات في المنطقة إن لجهة تحولها إلى دولة ديمقراطية تعددية ولا مركزية على أنقاض دولة البعث الاستبدادية العروبية المركزية بما ينعكس إيجابا على مختلف دول الإقليم، أو لجهة غرقها في أتون حرب أهلية وتقسيمات أمر واقع بما قد يدخل المنطقة برمتها في مرحلة إعادة صياغة للتحالفات والتوازنات والاصطفافات وصولا إلى الخرائط والحدود. وقد حددت الشخصية الكردستانية المخضرمة يوسف زوزاني بدقة موضوعية في محاضرته أهم ملامح المشهد، مشددا على أهمية استثمار هذه الفرصة الذهبية لإحقاق الحق الكردي في سوريا ما بعد البعث رغم تعقيدات الوضع السوري الهائلة واحتمال نشوب حرب طائفية شاملة في البلد على وقع إيغال النظام في خياره الدموي المترافق مع عسكرة الانتفاضة وتطييفها ومضي النظام البعثي في اللعب على ورقة التناقضات الإقليمية والدولية، وليس انتهاء بالدور التركي السلبي لاسيما حيال القضية الكردية في سوريا ومواقف بعض قوى المعارضة العربية السورية العنصرية من تلك القضية .
ولم يكن بلا دلالة استهلال زوزاني المحاضرة بالتأكيد على المبادئ المؤسسة لعدالة القضية الكردية في سوريا عبر تفنيد دعاوى بعض جهات المعارضة السورية العربية وأقطابها ،وفي مقدمتها المجلس الوطني السوري حول إنكار وجود كردستان سوريا ،معيدا التذكير بحقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا في هذا الصدد ومفندا تلك الاسطوانة المشروخة التي يرددها بعض دعاة العقلانية والاعتدال في الوسط الكردي السوري والتي تتحجج بكون المناطق الكردية في سوريا غير مترابطة جغرافيا، للطعن في مشروعية حق الكرد في إدارة مناطقهم وتشكيل إقليم كردي سوري يتمتع بإدارة ذاتية في ظل دولة لا مركزية واختزال حل القضية في وصفات المواطنة و"كلنا سوريون" . وأوضح المحاضر أن هذا المنطق يصب الماء في طاحونة القوى العروبية الشوفينية إن في النظام أو المعارضة ،إذ يتغافل عن حقيقة أن هذه المناطق متصلة مع عمقها الكردستاني في كردستان تركيا وإن هذا الانقطاع الجغرافي بين المناطق الكردية الثلاث في سوريا هو نتاج تقسيم كردستان وشروع السلطات العروبية المتعاقبة على سدة الحكم في دمشق على ممارسة سياسات تعريب وصهر قومي مبرمجة للبشر والحجر في كردستان سوريا وأن تكون المناطق الثلاثة ( الجزيرة وكوباني وعفرين ) منفصلة عن بعضها فهذا لا يطعن بأي حال من الأحوال في عدالة قضيتنا ومشروعية حقوقنا ولا ينتقص منها، فهل كون غزة والضفة منفصلتين يعني عدم مشروعية الحق الفلسطيني؟
وبعد التأكيد على هذه الحقائق والثوابت أشار زوزاني إلى الضرورة القصوى والعاجلة للتوصل إلى اتفاق شامل جبهوي بين الكتلتين الرئيسيتين في كردستان سوريا : مجلس الشعب لغرب كردستان والمجلس الوطني الكردي، بما يضمن تحصين البيت الكردي السوري وإلا فان المخاطر ستكون كبيرة على صعيد إضعاف الوزن والدور الكرديين في مجمل المعادلة السورية، ومحذرا من أنه قد تصل الأمور حتى لحدوث احتراب داخلي كردي في سوريا على غرار ما حصل في كردستان العراق مثلا إبان الاقتتال الداخلي البغيض. وهنا شدد المحاضر على ضرورة أن تلعب القوى الكردستانية الرئيسية، وتحديدا القيادة الكردية في الإقليم والحزبين الرئيسيين مع قيادة حزب العمال الكردستاني في قنديل، دورا فاعلا وضاغطا لجهة حض بل إلزام المجلسين الكرديين السوريين على التوافق والتفاهم والتحالف بما يضمن إحقاق الحقوق الكردية في سوريا الجديدة ،الأمر الذي ستكون له تبعات إيجابية على الأجزاء الأخرى أيضا من كردستان بطبيعة الحال .
ويبقى أن تلقى هذه الدعوة لشخصية كردستانية في وزن يوسف زوزاني الصدى وتشكل مدخلا لدور كردستاني فاعل لجهة توحيد الصف الكردي في كردستان سوريا وعدم تحويل هذا الجزء من كردستان إلى ساحة لتصفية حسابات القوى الكردستانية بين بعضها البعض ومحاولة فرض الوصاية عليها من هذا الطرف أو ذاك، بل على العكس ،فهذا الجزء الصغير لكن الكبير بدوره وإسهامه في مختلف الثورات التحررية الكردستانية في الأجزاء الأخرى من واجب بقية الأجزاء دعمه وإسناده بلا حدود .
الندوة كانت بادرة مهمة جدا نحو الارتقاء بدور الإعلام الكردستاني في صنع سياسات واستراتيجيات التعاطي الكردستاني مع التطورات الدراماتيكية المتلاحقة في منطقتنا بحيث نكون مبادرين فاعلين لا مجرد متلقين مفعول بهم ، ولا بد من تضافر الجهود إعلاميا وسياسيا وثقافيا ... في سبيل التأسيس لمستقبل كردستاني أفضل والاستفادة إلى أقصى حد من موجة التغييرات الكبرى التي تعصف بالمنطقة في هذه اللحظات المفصلية .