ستار كاووش
لوَّحَ لي بيده ثم أوقف سيارته قائلاً (أنا في طريقي الى غابة التماثيل لإنجاز تمثال جديد) هكذا كان لقائي الأخير بصديقي النحات رولوف، بعد انقطاع طويل، حيث أكمل كلامه (لقد هُيئتْ الأشجار التي سنعمل عليها أنا وباقي النحاتين في غابة أولتر ترب، وقد أنجزنا نصف العمل تقريباً.
عليك بزيارة الغابة ياصديقي) وغادر ليتركني أتساءل مع نفسي حول هذه التسمية (غابة للتماثيل؟) وهنا بعد قراءة هذه الكلمات، ربما سيعيد أحدهم صياغة هذا السؤال ويعيده لي متذمراً (لقد سأمنا من رحلاتك التي لا تنتهي، ومللنا من عوالمك التي تأخذنا فيها نحو عوالم غرائبية، لا نعرف إن كانت موجودة حقاً، أم هي محظ خيال) وأتوقع أن لا تنتهي الأمور عند هذا الحد، بل سيدفع بإستيائه الى أقصاه مطالباً (طيب، فلتحدثنا عن هذه الغابة التي تزعم وجودها، لنعرف إنْ كان الموضوع يستحق عناء قراءة مقالتك هذه أم لا).
هذا العالم مليء بالملامح الجميلة، وهناك منعطفات تسلب العقل وتسحر الروح، وما علينا سوى فتح النافذة بشكل صحيح ومناسب لنرَ العالم بعين جديدة. وفي الغالب، كل التفاصيل الباهرة تبدو في البداية صغيرة في هيئتها، لكننا حين نمعن فيها النظر، نراها كبيرة وممتعة في رمزيتها ومحتواها، والأهم من كل هذا إنها من صنع الانسان الذي يحب الأرض والطبيعة والجمال، وينتمي للبساطة التي تغذي الروح بعيداً عن تعقيدات الحياة وتراكم الروتين، المهم أن ننظر الى الأمام بعين متطلعة ولا نلتفت كثيراً لماضٍ، مهما كان تليداً. فأجمل يوم في الحياة هو اليوم الذي نعيشه الآن، وأجمل اللحظات هي اللحظة التي نتنفس فيها هذا الوقت.
وبالعودة لهذه التماثيل التي أؤكد لكم -بعد أن شاهدتها- إنها موجودة حقاً، فقط تجلدوا أزاء إنطباعكم الأول، ولنفتح النافذة معاً ونذهب عبر هواء هذه الغابة المنعش النقي، ونتجول بين التماثيل التي انغمست مع خضرة الطبيعة وإستلهمت ملامح الأشجار. تقع هذه الغابة في مقاطعة فريسلاند التي أعيش فيها شمالي هولندا وهي تبعد عن مرسمي نصف ساعة بالسيارة. وقد أرادت بلدية المقاطعة أن تجعل منها مكاناً يحمل الفرادة والندرة، كي تجلب الناس اليها وتجعلها مكاناً للنزهة، لذا دعت عدداً من نحاتي المنطقة ليقوموا بتنفيذ هذه التماثيل على جذوع مجموعة من أشجار البلوط والزان المختارة بعناية فائقة، أشجار كان من المقرر قطعها لكن هذا المشروع ساهم في بقائها واقفة والعمل عليها بهذه المنحوتات. وهكذا امسك كل نحات إزميله وأدواته وشرعوا في الحفر والتقطيع لإظهار ملامح بعض الشخصيات والحكايات الأسطورية، إضافة الى بعض الحكايات الشعبية القديمة التي تتعلق بهذه المقاطعة. كانت النتيجة مذهلة وعادت الحياة لهذه الغابة التي تنام فيها الآن هذه التماثيل صحبة العصافير، وبدأت الزيارات تكثر والناس تتجول هنا وهناك بحثاً عن هذه الشخصيات التي تبدو كأنها خرجت من جذوع الاشجار لتحاور المارة وتقودهم الى الطريق الذي امتد وتداخل مع الاشجار مسافة عشر كيلومترات، ويحتاج الى بضع ساعات كي يتمكن الزائر من اكماله. عدد هذه التماثيل يتجاوز العشرين تمثالاً، ومن المقرر أن تبقَ عشر سنوات، لرؤية التأثيرات التي ستحدث لها، وهي تبدو قد نُحِتَتْ على عجل، وهذا شيء مقصود، لأجل إظهار روح تعبيرية على ملامح التماثيل كذلك لاعطاء الطبيعة وتعريتها وتأثيرها الفرصة لتترك بصمتها مع الوقت علـى هذه الأشكال الغريبة، وهكذا بدأت بعض التغييرات تظهر هنا وهناك مع مرور الوقت، حيث سارت الطحالب الخضراء على بعض التفاصيل وتغير لون بعضها الآخر بسبب المطر والرطوبة، بينما نبتت على عدد منها أغصان جديدة. هي بكل الأحوال لا تخلو من البساطة والدعابة في تنفيذها وفكرتها وجذبها للناس الذين يعشقون هذا النوع من الابداع المنسجم مع روح الطبيعة.
أكملتُ جولتي وعطفتُ الى مقهى حمل اسم (البيت الأبيض) يقع في نهاية الغابة وبمحاذاة آخر التماثيل، وطلبتُ شراب (البيرن بورخ) الذي يعد الشراب الوطني لمقاطعة فريسلاند، حيث يُقَدَّم بكؤوس صغيرة جداً ويُشرَب دفعة واحدة، وعدت الى المرسم كي أروي لكم هذه الحكاية.