طالب عبد العزيز
فظلَّ يضوُزُ التَّمرَ والتَّمرُ ناقعٌ ---- دماً، مثلَ لونِ الأُرجوانِ سبائِبُه (يضوز= يلوك) و(سبائب= طرائق) كررتُ البيت هذا أكثر من مرة، وأنا ألوك رُطبَ (الابراهيمي) الذي أعطانيه أسعد الدغمان، وهو صنفٌ لم أعرفه من قبل، ولم أعهد له حلاوة بالتي عليها في صنوف النخل،
ولولاه ما دهم أبو حاتم السجستاني، صاحب كتاب النخلة ذاكرتي، ليمنحني الشاهدَ على ما استطعمتُ، وما انتفقاه أسعد لي، ملأ كفي رطباً إبراهيمياً فبدد قناعتي أكثر،فهو يقول: بأنَّ ما كان يُغرسُ في البصرة من الأنواع والصنوف يفوق ما تعارفت الناس عليه قبل مَغَارسِ البرحيّ، الذي أصبح على السنة الناس، يفاخرون بكثرته بين نخيلهم، ويذهبون في مديحه ما يذهبون. قلتُ: لو حَملتُ منها (قوْصَرًّةً) -بتشديد الراء، كما هي عند شيخنا السجستاني- لكانت الاثمن بعنبار مؤونتي للشتاء. كانت باصات الخشب تتوقف عند قرية أخذت اسمها من ضريح مندرس، له قبّة من الطين، على الطريق بين نهر خوز وأبي الخصيب يسميها العامة والخاصة (أبو كوصرة). يلفظونها بالكاف الاعجمية.
وفي اتصاله شبه اليومي، عبر الهاتف، ظلَّ أسعد الدغمان يحدثني بحديث النخل والانهار، ذلك لأنه يرى أنَّ كلَّ حديثٍ خلا هذا لا معنى، وأنْ ليس في ما قرأ من الكتب، وسمعه في المجالس، وما يتداوله الركاب معه يومياً في سيارته الذاهبة الى النجيبية والآيبة منها حديثٌ أقرب الى نفسه من هذا، بل ويذهب في ذلك أبعد مما يتصوره الناس، فلطالما توقف في طريق تفقده لبقراته، التي يغير مكانها ثلاث مرات في النهار، يحدِّثُ قلبه بشيء ما رواه آباؤه وأجدادُه، حتى وجدته ذات يوم معترضاً على غرس هذه النخلة الى جوار تلك، وفتق النهر هذا مقابل ذاك، في طمانينة لا تخلو من معرفةً خُصَّ بها، أخذت به الى النيل من جهد هؤلاء، الذين ما زال يصعد النخل الذي غرسوه، ويجني منه ما يختزنه ويهديه.
في طريقي اليه أمس، كان عليَّ أن اسلك طريقاً تَرِبَاً، يمرُّ بقنطرة حرب ومهيجران، ثم يصعده الى يوسفان وحمدان المعريف، عبر كوت الصلحي، فجامع الشهيد طه الذي بكوت الفدّاغ، حتى إذا بلغت الجادة الرئيس، التي تسوّي شركة أهلية أحدَ قناطرها، وقد انشات بديلاً لها سدّةً ترابية جانبية،عالية، ظلت المركبات الصغيرة تتفادها بطيئةً، خلصتُ الى جسر نهر ابي مغيرة، الذي اجتزناهُ بيسر، عندها ستكون الجادة قد اتسعت كثيراً، لأن الشركة العاملة ستؤسس لمسلك جديدٍ، كذلك تعمل دائرة الكهرباء على قلع الأعمدة القديمة واستبدالها، ومثل هذه تقوم دائرة الماء بانشاء شبكة ماء جديدة للإسالة. سيتسع الطريق إذن، وسيقصر زمن الرحلة من ابي الخصيب الى البصرة القديمة، لذا، سيجد راكبو باصات الخشب الوقت ضيقاً لأتمام أحاديثهم عن النخل والانهار فيرجئون ذلك الى الغد، ولأنَّهم سماعون لطرفة بن العبد، الذي لا يستعجل غده دائماً ( أَرَى الْمَوْتَ أَعْدَادَ النُّفُوسِ وَلاَ أَرَى // بَعِيدًا غَدًا مَا أَقْرَبَ اليَوْمَ مِنْ غَدِ) فقد راحوا يطوون صحائف حكاياتهم اليومية، على أمل أن تتعجل البلدية إكمال ما بدأته.
كنتُ عرضتُ على أبي عبد الرجمن، وهو رجل ممن تصطفيه لقلبك ساعة لا يصطفى إلا الاولياء، عرضتُ صنفاً نسميه (خِصَابْ) أخذني شكلُ رطبه الاحمر المِسوّد الى المفاخرة به، فقال لا أريده !! هذه نخلة مئْخارةٌ، وعجبتُ من لفظه هذا، وبيّن لي بقوله: هي مما يتأخر رطبُها وتمرُها الى الشتاء، على خلاف النخل كله. كنت أستعدتُ حكاية أحدِ مُلّاك النخل من النجديين، الذين هجروا بُريدة ودخلوا البصرة، قبل قرنين من الزمان وأكثر، يوم جاءه فلاحُه بزبيل من الرطب، ذاك الاحمر المسود، ساعتئذ كانت السماء بمطر ورعد، فقد حلَّ الشتاء وبان غيثه، وكانت الناس قد خرفت ثمار نخلها وحملت المهيلات والسميريات ما حملت منه الى اسواق الدنيا. قال النجديُّ لفلاحه متعجباً: " وشْ هذا؟ فقال الفلاح: هذا رطب خصاب. وشْ خصاب؟ فوصفه بانه الصنف الوحيد الذي يتأخر نضجه حتى حلول الشتاء، وراح يزيّنه ويرفع من قدره له، لكنَّ النجدي قطّب بين عينيه، ولملم تقاطيع وجهه، حتى صار يشبه كِرنافة، ثم قال: هذا الما لحك ربعو اقلعو.
في مساء أوبتي من أسعد الدغمان كانت البلدية قد إستحدثت طريقاً جديدةً، يستخدمها المتعجلون الى منازلهم، فهي ومنذ سنوات تستحدث الطرق للساكنين الجدد، ومن نافذة المركبة بكوت الفداغ رحتُ اسمي القناطر والجسور والانهار، فيما طبق الرطب الابراهيمي يحرضني على طلب الفسيل منه، والاتيان به من نهر خوز الى عويسيان، فهذا مما لا يتجاوزه واحد مثلي، إذ، ليس الذي يُهدى اليك من التمر كالذي تنوشه وتخرفه بيدك.