د.عبّاس آل مسافر
هل لامست فكرةُ (البطل الغائب) أو (البطل الموعود) روح السّياب، ذلكَ الشاب الذي لم يرَ طعماً للحياة منذُ طفولته الأولى إلى الموت مرضاً،
ومروراً بالفاقة والغربة والخسارات الكبرى على المستويين الشخصيّ والسياسيّ، وهل أن تجاربه الفاشلة بالحبِّ الذي كان يقدّمه بصورة شاب فقير وهزيل مستحقاً للشفقة عليه أكثرُ من تبادل المشاعر معه، أم إنّ دوافع إيمانه ببعض الأفكار والفلسفات التي انكفأ عنها فيما بعدَ هي التي رسّخت فكرة (عودة الإنسان النموذج) بكامل طاقاته مرةً ثانية ليخلقَ عالَماً مثالياً من اليوتيوبيا. هل كان بحثُ السيّاب عن القائد السياسيّ والرمز الأيديولوجي المناضل من أجل الآخرين والفادي لهم ليسبغ عليه قصائده وما تطلقه موهبته الشعريّة، لكن هذا البحثُ لم ينتهِ به إلى شيء سوى العدم وحده؛ لذلك نجده عادَ إلى مكنوناته ليصيغ نصوصاً شعريّة توحي لنا بضرورة الإيمان (بالبطل الموعود) القادم لا محالة، وهذا يؤدي بنا إلى السؤال الأكثر وضوحاً وأهمية، وهو "هل كان السيّابُ بانتظار غودو" آخر.
فالسيّابُ واحد من أكثر شعراء الحداثة توظيفاً للرموزَ والأساطير بكلِّ أنواعها واستثمارها وتطويعها لصالح الفكرة التي يريد أن يسوغ لها، و أسبغَ مفهومها على تجربته الحياتيّة التي تمثل حيوات الكثير من الناس في عصر الحروب والمجاعات والانقلابات السياسيّة والعسكريّة وانتشار الأمراض والأوبئة، وازدياد معدلات الجهل والتخلف، وقد كان "الرمز الدينيّ" من أهم الرموز التي وظّفها السيّاب في الكثير من قصائده في مختلف المراحل الشعريّة/ الحياتيّة التي مرَّ بها ، وكانت من بين تلك الرموز "البطل المُخلِّص" التي تعددت صوره في القصائد بحسب الظرف الذي يمرًّ به الشاعر، وربّما تكمن خلف هذا الاختيار أسباب نفسيّة وفنّية وأيدولوجيّة. وفكرة (المنقذ) أو البحث عنه وانتظاره، واحدة من المواضيع الرئيسة التي شغلت عقول أغلب الكتّاب والمفكرين في مختلف العصور التاريخية، بل أصبحَ مبحثُ التفكير بـ(الخلاص The Salvation) وإيجاد الطرق التي تحدد معالمه واحداً من الأفكار التي وجدتْ لها صدى كبيراً على مستوى الأديان والفكر والحضارة، ومن هؤلاء المبدعين الذين شغلتهم هذه الفكرة السيّاب، والذي مرّ ومنذ طفولته بالعديد من التجارب الصعبة التي صقلت شخصيّته، وتعرَضَ للكثير من المحن، والذي لا جدالَ فيه بأنَّ السيّابُ قد تشبّع بالكثير من الأساطير الدينيّة بعد أن أطَّلَع ـ وعن كثب ـ على عدد من المصادر التي كُتبت عن هذه الأساطير، وقرأها بلغاتها الأصليّة أم مترجمة، مما وفّر له الدخول المباشر والعيش في دلالات هذه الحكايات، ومن أهم تلكَ المصادر هو كتاب (الغصن الذهبيّ) لجيمس فريزر، ولاسيما فيما يتعلق بالأساطير الشرقيّة منها، حين كانت هذه الطقوس وسيلة لهدف جماعيّ في محاولة السيطرة على خصوبة الطبيعة المتجسدة في النبات والحيوان والانسان، وهو محاولة لتعليل موت الحياة الزراعية والحيوانية وعودتها من خلال تعاقب الفصول، وقد ربط الانسان البدائي بين موت الحياة وعودتها من جهة، وبين الالهة التي تتحكم في الطبيعة وتخضعها لسلطانها من جهة أخرى، وجعل الطقوس ترتبط بأسماء الالهة وتمارس من خلالها، وقد يكون لحكايات الجدّات والعجائز التي ملأت ذاكرة السيّاب دورٌ كبيرٌ أيضاً في ترسيخ مجموعة من الأفكار والمعتقدات الشعبيّة المأثورة، ومنها فكرة البطل الشعبيّ الذي دائماً ما يكون حاضراً في ذروة الصراع .فالبحث عن "البطل الغائب"، والغائر في وعي الجماهير المضطهدة والمظلومة. كانت له حصّة في شعر السيّاب،
والذي لابدَّ من الإشارة هو أن فكرة (غودو) في مسرحية بيكيت صوموئيل قد لا تعني انتظار شخص ما فقط، بل قد تعني أيضًا انتظار المجهول القادم أو انتظار الجديد من الأفكار الحداثوية، من جهة ثانية ربّما تكون أيضًا فكرة (البطل المُخلٍّص) في شعر السيّاب لا تتماهى مع البطولة الأنموذجيّة التقليديّة السائدة، والرابضة في الذاكرة الجمعيّة للمجتمعات المقهورة والمضطهدة، بقدر ما تكون هي الفكرة الباحثة في فلسفة أو نظرية للخلاص.
وفي قراءة جديدة لشعر السيّاب وبتتبع تطور الخط الدلاليّ الذي سار عليه الشاعر في إحلال فكرة (البطل المنقذ) في شعره، نجد بأنَّ طريق تقليب الأفكار التي تدل على وجود رمز الخلاص في الحيوات التي أحياها الشاعر وسط المجتمع الحالم بغدٍ أفضل يحلًّ فيه السلام بدلاً من الحروب والإبادات والمجاعات والقتل، وعلاقة بعض الرموز الشعريّة التي وظفها السيّاب بشعره بما ينتظره من خلاص وما يعانيه من آلام نفسيّة، فجاءت فكرةُ الخلاص مقاربةً لبعض تلك الرموز، وقد كان لكلِّ مرحلة من مراحل شعره رموزها الخاصة بها التي فرضتها التجربة والمرحلة النفسيّة للسياب، لذلك نجدُ استثماره للرموز خاضعاً للمعيارين السابقين (الزمن/ الحالة)، ويمكن حصر هذه الأفكار المساوية للانتظار في ثلاثة رموز/ هي:
ـ المطر/ المُنقذ
يشكّل المطرُ خطًاً بيانياً في ذاكرة الشعر السيابيّ، وهو أولى الأفكار التي تمخض عنها التصور لنوع هذه البطولة المُخلِّصة للإنسان من خلال فكرة رجوع النيل بعد الجدب الذي يصيب الناس، وبفعل المطر تزداد مناسيب المياه فيرجع النيل المقدّس إلى سيرته الأولى، فيفيض ليغمر الأراضي الزراعيّة من حوله لتزداد الغلة الزراعيّة، وتبدأ الاحتفالات بهذه العودة الميمونة، ثُمّ تطورت هذه الفكرة إلى تشخيص الظاهرة وإسباغها على شخص معين، فيقول:
يا إلهي ابعث على السهول
مطراً هادئاً خفيفاً
كي تثمر الحقول
وتزدهر الكروم
وتمتلىء حبوب الغلة وتنضج
ويثرى الأهالي من حولنا
وكلّ دمعةٍ من الجياع والعراةْ
وكلّ قطرةٍ تُراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ
أو حُلمةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياةْ!
مطرْ...
مطرْ...
مطرْ...
سيُعشبُ العراق بالمطرْ...
وهذا تساوق دلاليّ بين عودة المطر وعودة الغائب المنتَظَر، بعد أن يئس الشعب من جميع الحلول التي يقدمها لهم الحكام الظلمة، أو تقدمه له الفلسفات والنظريّات والأطروحات، لاسيما بعد أن أورَدَ المقطع التالي : "فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسم جديدْ"، فانتظار المطر في شعر السيّاب هو بالحقيقة انتظار عودة ذلك الغائب في أعماق الوجدان الشعبيّ والتاريخ معاً. والحداثة في توظيف فكرة الخلاص في شعر السيّاب في أنّه ألبس هذا (المنقذ) ثوب الرمز الدينيّ والتاريخيّ والأسطوريّ معاً، ولا يتقيد فقط بما تجود به الميثولوجيا الإسلاميّة عن انتظار البطل الموعود، كما في استثمار رمز (السيّد مسيح) وتوظيفه مُخلِّصاً للبشريّة ، ففي قصيدته (المعبد الغريق) التي يقول فيها :
أما فجعتك في طروادة الآهات من جرحى
ومحتضرين؟
فيم إذن التردد..هل:
لأجل فجور أنثى واتقاد متوج بالثأر
الموت/ البعث مرةً أخرى
وتتجسد "فكرة الموت" الرابضة في مخيلة السيّاب على شكل دفقات شعوريّة لا يستطيع كبتها مطلقًا، ومن خلال هذه "الثيمة" تسللت إلى شعر السيّاب فكرة "البطل المنقذ" الذي سيعود يوماً ما من أجل أنصاف المظلومين، وقد يكون لفكرة الرَجعة عند بعض الفرق الإسلاميّة دور كبير في تأسيس فكرة العودة مرّة أخرى إلى الأرض لمعاقبة المجرمين قبل يوم القيامة الذي سيُحشر فيه الناس، وقد عبّر السيّاب عن هذا بعدَ أن قام بامتصاص روح الفكرة ثُمَّ أنتج فكرة مزيجاً من هذا وذاكَ، والموت عنده يختلف عن الموت الطبيعيّ؛ إذ إنَّه موت بعده عودة أرضيّة لا سماويّة، عودة مكلَلة بالانتصار بعودة البطل الغائب القادم من أعمق الحضارات. وكان السيّاب مؤمناً ومتأثراً بآلية التوحد مع الأبطال المخلِّصين روحاً وفكراً يقتدي بهم بطريقة الفداء والتضحية، وقد حاول السيّاب تقليد "ت.س.أليوت" في مسرحيته "مقتلة في الكتدرائية" التي تتبدى بها فكرة التضحية إذ يرى السيّاب أن دمه قد صار في كل قلب حتى بعد استشهاده وهذه الحداثة الثانيّة في توظيف فكرة البطل المنقذ حيث يحاول السيّاب التوحد مع هذه الشخصيّة:
أود لو عدت أعضد المكافحين
أشدُّ قبضتي ثم أصفعُ القدر
أودُّ لو غرقت في دمي إلى القرار
لأحملُ العبءَ مع البشر
ـ الثورة/ الخلاص
ارتبطت الثورة بشكل مباشر مع روح السيّاب سواء في بداية المشوار ونهايته القصيرة جداً، ومن خلال تلك الروح المتمردة أنسلت الأفكار الثوريّة إلى شعره فيما بعد، فالسيّاب "ذلك الفتى النحيل الغازي بغداد بالشعر في مقدمة المكافحين وعلى رأس الصوار، كان يحمل جناناً إنسانياً رحباً، يحاول أن يجد الفرصة للتعبير عن نفسه بالوسائل المختلفة: الفنية والعملية، وكان هذا الاضطراب والاصطراع في أعماقه فقد بدأ يتحوّل إلى نوع من التركيز والتوحد في منهج سياسي واحد، فرأى أن الالتزام خير وسيلة لخدمة الشعب والأمة. وكان تفكيره يتجه نحو الشيوعية حيث كان تيارها قد بدأ يتضح ويشتد في تلك الآونة خصوصاً في مناطقنا العربية التي ذاقت من الغرب وبعض دوله ما ذاقت من ويلات الاستعمار والحرب ونهب الثروات ، والثورة هي الوعاء الذي استطاع السيّاب بواسطته أن يفرّغ شحناته المتجمعة في ذاكرته، وهو يحمل المشعل لأبناء وطنه، وهناك مقاربة روحيّة بين الثورة وبين البطل فكرة الخلاص التي تأتي من أجل الهدف نفسه الذي يعيش في مخيلة الثوار، ويداعب مخيلة الشباب الحالم، وهذا الهدف يتحدد بالقضاء على الديكتاتوريّة والظالمين وتجار الحروب الذين يترصدون بالعالم الخراب، والحداثة في توظيف فكرة الخلاص في شعر السيّاب في أنّه ألبس هذا (المنقذ) ثوب الرمز الدينيّ والتاريخيّ ولا يتقيد فقط بما تجود به الميثولوجيا الإسلاميّة، وهذا للربط بين الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ في العراق وبين التاريخ السالف، ومن خلال هذه المقاربة الثقافيّة يشخّص الكثير من الجراحات التي أصابت جسد هذا البلد، ونستطيع تشخيص ذلكَ في شعر السيّاب من خلال مقطع من قصيدته (المعبد الغريق) التي يقول فيها :
اما فجعتك في طروادة الآهات من جرحى
ومحتضرين؟
فيم اذن التردد..هل:
لأجل فجور أنثى واتقاد متوج بالثار
تخّب من دم المهجات حتى سُلِّم الأفقِ.
هلم فقد شهدت، كما شهدتَ، دماً وأشلاءاً
تفجر في بلادي قمم ملأته بالنار
دهور الجوع والحرمان.
فالسيّاب كأنه يريد أن يخبر عوليس انه شاهد في العراق صراعات ومجازر دموية شبيهة تشبه تلك التي رآها عوليس نفسه، فالرؤية الجديدة للعالم التي كونها السيّاب هي النظرة إلى الوجود البشريّ على أنه قائم على ثنائيّة الحضور/ الغياب ، فما أن أنوجد الأول غاب الثاني أو العكس سيكون بحضور الثاني غياباً وافتراقاً للأول .