اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > آراء وأفكار > نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل 3

نظرية الدولة بين ابن خلدون وهيغل 3

نشر في: 19 أغسطس, 2020: 07:59 م

هل أطلع هيغل على «المقدمة»؟

 د. حسين الهنداوي

بعد كل ما تقدم، يبدو من الممكن جداً، أن يكون هيغل قد أطلع، مباشرة، على عدد من النصوص الخلدونية المترجمة، أو عرض للأفكار النظرية الخلدونية العامة، حول علم التاريخ، ولإعطاء فكرة مختصرة عن الاهتمام الكبير، الذي أولي لابن خلدون، في غضون الفترة التي كان هيغل فيها يضع مكونات فلسفته التاريخية،

من الضروري أن نورد، هنا، هذا النص، الذي نشره دي سلان، في العام 1862 في باريس، والذي يتضمن جرداً موجزاً بالأعمال التي ظهرت في أوروبا الغربية، حول ابن خلدون، خلال الفترة عينها:

في 1806 نشر دو ساسي، في كتابة «مختارات عربية»، فصلاً عن «مقدمة» ابن خلدون، يتعلق بمفهوم "السيادة". وفي 1810، نشر فصلاً آخر، في كتابه حول «العلاقات مع مصر»، مع مقاطع من الفصل الذي يتناول العلوم العقلية. وفي 1818، نشر هامر بورغشتال الفصل المتعلق بالموسيقى، وذلك في مجلة (كنوز الشرق). وفي 1820، نشر الأب لانسي، في روما، نص الفصول المتعلقة بالكتابة. وفي 1822، أعطى هامر، في (المجلة الآسيوية)، قائمة بالفصول التي تضمها الأقسام الخمسة الأولى من المقدمة. وفي 1823، نشر غارسان دو تاسي قائمة بفصول المقدمة. في العام 1824، نشر كوكبير دومونبريه الفصول الخاصة بأصول المدن الأفريقية والصروح الإسلامية. وفي العام 1825، نشر شولز في (المجلة الآسيوية) نص وترجمة عدة فصول من "المقدمة". وفي 1827، نشر كوكبير دومونبريه أيضاً نص وترجمة ما يتعلق بموضوع العمران. وفي 1826، نشر دو ساسي النصوص المتعلقة بعلم التاريخ.

علاوة على ذلك، إن شهرة ابن خلدون، في الدوائر العلمية والاستشراقية الغربية، في العقدين الأخيرين من حياة هيغل، إقترنت بضجة حقيقية حوله، دفعت الكثير من الباحثين في ألمانيا، إلى إعادة النظر في نتائج دراساتهم، حول الفكر الإسلامي. ففي العام 1825، نشر فريدريك شولتز، أستاذ الفلسفة الألماني، المعاصر لهيغل، دراسة هاجم فيها، بعنف شديد، التركيز على دراسة الشعر، لفهم ثقافات الشرق، مطالباً بالتحول عنها إلى دراسة البحوث الفلسفية الشرقية الفريدة، وعلى رأسها «مقدمة» ابن خلدون، التي يعتبرها بمثابة «البحث الفلسفي الحق» في علم التاريخ. وقد انبرى عدد من كبار المستشرقين لمناقشة تلك الدعوة، في سلسلة طويلة من الكتابات العميقة، والسجالية أحياناً، جلبت انتباه، لا الأوساط الفكرية فحسب، بل حتى وزارات الحربية والمستعمرات، في أوروبا الغربية. اذ وبتكليف من وزارة الحربية الفرنسية شرع دوسلان في 1844 بإنجاز الترجمة الكاملة لـ"المقدمة"، حيث يخبرنا بنفسه انه عين بمنصب رئيس المترجمين في الفيلق الافريقي التابع للجيش الفرنسي,

بعد كل ما تقدم، من الصعب علينا التصور أن هيغل، لم ينتبه إلى كل هذا الاهتمام بفيلسوف للتاريخ، مثله، لاسيما أنه كان على اطلاع مستمر على كتابات معظم هؤلاء المؤلفين، الفرنسيين والألمان، الذين انهمكوا، آنئذٍ، في الكشف عن ابن خلدون، كما أن مجلتي «كنوز الشرق» الألمانية و«المجلة الآسيوية» الفرنسية، اللتين اهتمتا، أكثر من غيرهما، بابن خلدون، هما من المطبوعات التي يذكرها في نصوصه، حول فلسفة التاريخ.

نستطيع الزعم، إذن، أن هذه المعطيات جميعاً، تجعل من الواقعي جداً اعتقادنا بإمكانية اطلاع هيغل على نصوص من «المقدمة»، على الرغم من أنها تظل محض استنتاج غير نهائي، ويحتاج بالضرورة إلى المزيد من البحث الموضوعي. وبانتظار اليقين الحاسم في هذا الأمر، فإن الفرضية الثانية، القائلة بأن هيغل، لم يتأثر بأفكار ابن خلدون مباشرة، إنما عبر مفكرين أو نصوص وسيطة بينهما، تبدو الفرضية الموضوعية الأخرى، في الوقت الحاضر، على الرغم من أنا نرجح السابقة عليها بشكل كبير.

ودون الدخول في حيثيات تفصيلية، حول هذا الموضوع، يمكننا القول بأن هناك من الأدلة ما يكفي للاستنتاج أن مؤلفات فكرية عديدة، تحمل تأثيرات ابن خلدون، كانت قد وصلت هيغل، ودرسها عن كثب كـ«مقالات حول تيت ليف» و«الأمير» و«تاريخ فلورنسا» لميكافلّي، و«روح القوانين» لمونتسكيو، و«رحلة إلى مصر وسوريا» و«تأملات حول ثورة الأمبراطوريات» لقسطنطين فولني، و«تأثيرات ديانة محمد» لاولسنر والعشرات غيرها مما لا مجال لذكره هنا. إلا أن كتاب «العلم الجديد» للمفكر الايطالي جان بابتسيت فيكو، هو ربما أبرز النصوص الرئيسية، التي جعلت هيغل على صلة عميقة بجملة من الأفكار الخلدونية الرئيسية حول التاريخ. إذ من المعروف والثابت، الآن، أن هيغل قرأ كتابات فيكو، باهتمام خاص، في الفترة التي سبقت انهماكه في بلورة فلسفته الخاصة، حول التاريخ.

صدر كتاب «العلم الجديد»، للمرة الأولى، باللغة الايطالية، في العام 1725، تحت عنوان «مبادئ علم جديد حول الطبيعة المشتركة للأمم». وكان فيكو، الذي ولد في نابولي، عام 1668، قد درس اللاهوت والفلسفة والتاريخ، وكانت لديه معرفة واسعة بالأحداث التاريخية والحياة الأدبية في الأمبراطورية العثمانية، كما كان يعرف الإسلام جيداً، كآخر الأديان التي تقول بأن «الله هو روح لا نهائية" .

لا يذكر فيكو ابن خلدون أبداً، هو الآخر. الا أن مفهوم «العلم الجديد»، الذي يطلقه على فلسفته للتاريخ، مستلهم من «مقدمة» ابن خلدون استلهاماً ذا مغزى بحد ذاته. ومن بين أفكار فيكو الفلسفية، ذات الأصول الخلدونية، إعتقاده بأن الميزة الأساسية، التي تؤسس علاقات البشر ببعضهم، هي طبيعية نزعة الاجتماع لديهم، وأن ما يخلقه الناس بأنفسهم، هو موضوع المعرفة الأكثر سموّاً. وكذلك أخذه بمفهوم التعاقب الدوري لمراحل التاريخ، كما لاحظ ذلك الباحث الفرنسي شي روي، وإن بشكل عابر جداً. فالتاريخ، في نظر فيكو، صيرورة من التطور المستمر، وأن كل شعب، يمر في دورة تتعاقب فيها ثلاثة أطوار، هي التدّين والبطولة والإنسانية، وأن كل دورة، يعقبها، بالضرورة، سقوط جديد في البربرية وبداية لدورة حضارية جديدة. وتلعب الغزوات الكبرى دور المحرك الأساس في ولادة الدول والحضارات، كما أن فكرة العدل هي غاية التاريخ، في نظره.

ويرى فيكو أن تحليل السيرورة التاريخية للبشرية، ينبغي أن يأخذ في نظر الاعتبار العلاقة بين الإلهي والإنساني. فالعناية الإلهية هي «ملكة الشؤون البشرية»، التي تقود أنشطة الناس الفعليين، في ميادين الاقتصاد والدولة والقانون والدين والعلوم والفنون ونتاجاتهم الأخرى. ومن الضروري البرهنة على أن العناية الإلهية واقع تاريخي، وأن جوهر التاريخ الكوني هو الغاية الإلهية المقدسة، وليس الظواهر السطحية والإرادات الإنسانية، التي تبدو كأنها هي التي توجه أعمال الأفراد والجماعات. فهناك وراء «غرور الأمم»، والصراع العنيف الذي نشهده في العالم بينها، قوانين تحدد مسيرة الإنسانية نحو الحضارة. فالنتاجات البشرية، ينبغي أن تفسر من خلال الضرورة، ومن خلال ما يشبه فكرة «مكر العقل». وهكذا، يبدو فيكو متبنياً تماماً رأي ابن خلدون في أن المبحث الحقيقي للعلم الجديد، هو «فهم باطن التاريخ»، أي فهم تلك القوانين الخفية التي تحكم التاريخ البشري .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: إنهم يصفقون !!

تعديل قانون الأحوال الشخصية دعوة لمغادرة الهوية الوطنية

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

العمودالثامن: نائب ونائم !!

السيستاني والقوائم الانتخابية.. ردٌ على افتراء

العمودالثامن: إضحك مع الدولة العميقة

 علي حسين تهلّ علينا النائبة عالية نصيف كلَّ يوم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي والصحف والفضائيات، ويتعاطى العراقيون جرعاتٍ مسكنةً من التصريحات التي يطلقها بعض النواب، حيث يظهرون بالصورة والصوت ليعلوان أن المحاصصة...
علي حسين

كلاكيت: عشرة أعوام على رحيل رينيه

 علاء المفرجي في الذكرى العاشرة لرحيل شاهد عصر الموجة الفرنسية الجديد، التيار الذي شكّل حدثاُ مفصلياً في تاريخ السينما ألان رينيه الفرنسي الذي فرض حضوره القوي في المشهد السينمائي بقوة خلال تسعة عقود...
علاء المفرجي

نحو هندسة للتوافق التنموي

ثامر الهيمص وليكن نظرك في عمارة الارض، ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لان ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة اخرب البلاد، واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلا. في...
ثامر الهيمص

ضجة التّماثيل.. كَوديا بعد المنصور!

رشيد الخيون أقام ديوان الكوفة بلندن(1993) أسبوعاً عنوانه "التُّراث الحي في حضارة وادي الرّافدين"، ففاجأنا دكتور بعلم الأحياء، معترضاً على إحياء "الأصنام"، وبينها كَوديا. لم نأخذه على محمل الجد، حتى كسرت "طالبان" تمثالي بوذا(مارس2001)،...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram