الرئيسية > عام > في نص لـ موفق محمد نشرته الـمدي: البناء الملحمي في (ويسيل المذياع دماً)

في نص لـ موفق محمد نشرته الـمدي: البناء الملحمي في (ويسيل المذياع دماً)

نشر في: 24 أغسطس, 2020: 06:22 م

علوان السلمان

النص الشعري..شفرة مستفزة للذاكرة تستدعي المستهلك(المتلقي) تفكيكها وحل طلاسمها ورموزها والوقوف على مقاصدها..

إنه مغامرة القبض على جمرة اللحظة المتوهجة من خلال الارتقاء باللغة وإيقاعها المنبعث من بين ثنايا حروفها وألفاظها وعباراتها المتوافقة وبنائها المتصاعد والحس الشعري..

وباستحضار النص الشعري الملحمي(ويسيل المذياع دماً) الذي نشر على الصفحة الثقافية لجريدة المدى عدد 4746 في 11/آب/2020..والتي أفرزته ذاكرة منتجه الشاعر موفق محمد ونسجت أنامله مقاطعه الصورية التي تجر مستهلكها صوب السوناتا الشكسبيرية..والذي يقوم على تصوير الأوضاع المجتمعية(السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية..)..وفق منظور المنتج (الشاعر) الذي يمازج تجربته الشخصية وأحداثها بين رحلتين زمنيتين(الملكية والجمهورية وصراعاتها..)..مستنداً على خلفية ثقافية وحكائية فيكشف عن حقائق إنسانية في وقت واحد..مما دعاها أن تقترن بوحدة موضوعية سابحة في عوالم الكينونة الضائعة في متاهات الزمكانية.. وقد توزعها معجمان أساسيان: أولهما وجداني..انفعالي..وثانيهما تأبيني بالهروب من لحظة الحاضر الموسوم بالفقد الى الماضي ملاذ التذكر والامتلاء الوجداني..

لم نكنْ نعرفُ الملك ، ولم نرهُ

كنّا نعيشُ في أزقةٍ ضيقةٍ ، وبيوت أضيق منها 

فرحين بما آتانا اللهُ من الرزق الحلال 

كان السمك يأتي من النهرِ الى بيتنا راقصاً بعباءة أمي ..

وكنّا نصل الى المدرسة راقصين على أنغام الكمنجة ..

وما أدراك ما الكمنجة التي يعزف عليها المعلمُ 

ونحن نتحلّقُ حولهُ بقيادة نار ونيران ونوري 

ونهتف : إحنه صف الأول أحسن الصفوف 

والميصدك بينه خل يجي ويشوف ..

وماذا يشوفُ ..؟

صبية يرتجفون من البرد 

ودهن المشك يتلألأُ في أيديهم 

فالشاعر يشتغل في نصه على التناوب ما بين السرد والحوار عبر إيقاع بطيء..نام.. ينتهي بلحظة التفاصيل والدخول في الجزئيات واستلهام أجواء ذاتية تقترب من المنولوجية..مع استدعاء الذاكرة التأملية..فينتج المنتج(الشاعر) نصاً برؤية سردية تجمع ما بين المنظور السايكولوجي والحواري..مع وصفية بعيدة عن السكونية..ذات قيمة تصويرية مجسدة للأمكنة والأزمة والحدث..مع التأكيد على مركزية الإنسان كفعل وتفاعل..إضافة الى الهم الوطني والمجتمعي..فيحلق في أفق الصورة الشعرية المستكشفة للمجهول والكاشفة عما يخبىء وراء الستار الذي هو الواقع اليومي على حد تعبير أدونيس..مع اعتماد حركة الأفعال المضارعة(نعرف/نعيش/يأتي/نصل/يعزف/ نتحلق/ نهتف..) التي تتنامى وتمتد على طول جسد النص متسارعة الإيقاع..كاشفة عن الحالة النفسية للمنتج وانفعالاته الداخلية والخارجية مع توتر درامي يسهم في تصعيد النص وايقاعه من خلال التكرار الدائري(لم نكن نعرف..) مع انزياح جملي يصب اللغة في قوالب المعنى..لتشكل صوراً شعرية ترسم المعاني والدلالات برؤى توصيلية تدغدغ المشاعر الإنسانية وتكشف عن فعل المنتج وتفاعله والحياة..من خلال ممازجته بين الدلالة والسياق بكيمياء التخييل والفكر..مع قدرة على أنسنة الأشياء ابتداءً من العنوان العلامة السيميائية والنص الموازي المستل من المقطع الخامس(كانوا يتصارعون ويبشرون الناس بالخراب/الذي لا قيامة بعده..ويسيل المذياع دماً)..والذي يعد جسراً آمنا يمر عليه المستهلك(المتلقي) للوصول الى دلالات النص الشعري..

كان النهر يعبرُ سياجَ المدرسة 

ويصعدُ الى منتصف النخلة 

حيثُ جرسُ المدرسة المعلق 

لينقرَعليه بأصابعه المائية الذهبية 

فتنقرُ من أمواجه الى الساحة 

طائرين بأكواب الحليب ودهن السمك 

وقدري قادَ بقرنا ..

ونركض وراء النهر الذي يعبرُ سياج المدرسة 

عائداً الى ضفتيه بعد أَن دقَّ جرسنا ونغني له : 

أيّها النهرُ لا تسرْ

وانتظرني لأتبعك 

أنا أخبرت والدي ..

إنني ذاهبٌ معك 

فانتظرني لأتبعك .

فالنص عند المنتج(الشاعر) خلق فني..تقني يتحقق ضمن إطار الزمكانية من جهة وتحت تأثير الحالة النفسية من جهة أخرى..بوحدة موضوعية متداخلة في الفعل الشعري والاستدلالي والانفعالي الشعوري..فيكشف عن براعة فنية مع توهج اللغة الشعرية القريبة من الوجدان بتدفقها المنساب بهدوء مع مناجاة الذات واعتماد أسلوب التراكم الدلالي للمتناقضات الحاصلة داخل نسيج النص المشبع بقدرته التعبيرية بسبب ركائزه التي تكتنزها البيئة المختزلة له..مع قدرة على استنطاق اللحظة الشعرية عبر نسق لغوي مكتمل المعنى برموزه التي يوظفها المنتج كشفرة قصدية للكشف عن المعالم الشعرية بلغة زئبقية محتشدة بالصور والمرئيات التي اكتظت بقضايا العصر والانسان..كي تثير جدلاً..كون الشعر تجسيد فني لمستويات اللغة بامتلاكه قدرات تعبيرية تكتنز بها البنية النصية..

فما زلنا في ماكنة اللحم البشري التي يدير رحاها 

الانقلابيون المولعون بهرس اللحم البشري وأكله 

بالشوكة والسكين وتنانير مسجورةُ

وتفور من يوم مقتلك وحتى هذه الساعة 

لقد تخرجنا من المركز الوطني العراقي للرعب 

بدرجة امتياز ، فمن كثرة ما خوفونا

لمْ نعدْ نخاف أحداً .. رئيساً كان أم لصاً 

فكلاهما متشابهان ومتساويان كأسنان الذئب 

فالخوف مثل النفط شللٌ دائم 

ولا فرق بين من يُسحَلُ قتيلاً 

أو نشيراً من القبر ..

وعبرت الشط على مودك 

خليتك على راسي 

كل غطة واحس بالموت 

كوه أشهك أنفاسي

فالمنتج(الشاعر) يعتمد في بناء نصه على تقنية السرد الشعري المؤثثة بالتداعيات التي يضخها من خارج الذاكرة وهي تتصف بتراكم الصفات التي أسهمت في الكشف عن توتر نفسي..فضلاً عن تجلي تقنية التناص(فكلاهما متشابهان ومتساويان كأسنان المشط) والتضمين(ووالد وما ولد)و(من المهد الى اللحد) كتكنيك شعري فني يوظف الموروث(الثقافي والديني..) وبؤر التراكم المعرفي المتزاحم في الذاكرة من أجل خلق انفعال جمالي يعمل على تحريك ذهنية المستهلك وتوكيد الأفكار والدلالات لخلق نص مبني على تداخل المتناقضات في شكلها وجوهرها....مع الاهتمام والتركيز على الصورة الشعرية..الأداة الكاشفة عن جوهر التجربة والمحققة للذات موضوعياً..والتي تتخطى الحسيات الى أفق الرؤيا بمخاطبة الوجود بكل أشيائه بلغة يومية متشظية ومستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي)..إضافة الى اتقان المنتج(الشاعر)لتكوينات تجربته الخارجية والداخلية مع امكانيته على توظيف اللغة الكاشفة عن قدرة في شحن الألفاظ بدلالات غير مألوفة من أجل التحليق في أفق الصورة الشعرية عبر بنية نصية قائمة على مجموعة من العتبات التي تقدم نفسها بفقرات تقتسم النص الى بؤر دلالية متكافئة وهي تسبح في البنية اللغوية أولاً والبنية المعرفية ثانياً..

كنتُ أبكي ولا أعرف لماذا 

ورأيت أطلس العراق والدم يتدفق غزيراً منه 

نازلاً من شماله الى جنوبه وصاعداً من جنوبه 

الى شماله ..

ورأيتُ شط الحلة 

أحمر يجري 

أسود يجري 

وقد علاه الصدأ 

وآلآف من الرؤوس المقطوعة 

تنوح على ضفتيه 

وأنا 

أخضرتُ مركبي 

هو يا نهرُ من ورق 

أدنُ يا نهرُ إنني 

لستُ أخشى من الغرق 

فانتظرني لأتبعك .

فالشاعر يوظف الفعل الدرامي الذي يأخذ ابعاداً(نفسية واجتماعية..) ويؤطر به جسد النص المزاوج بين لغة الجسد والروح(ودخلنا في كهوف الرعب المطبق افواجاً/ويقتل بعضنا بعضا/ونفدي بأرواحنا/ من يأكل لحم شعبه حياً..)..كي يمنح متلقيه نشوة الاداء الشعري الذي يمسك بانزياحات المعاني التي ينتجها وهو يخوض في غمار التجربة التي تسبح بين عالمين مترابطين هما:عالم الذات وعالم الموضوع..فضلاً عن استحضاره للمثل(كاغد وجاسه الماي كلبي)و(الهزيمة ثلث المراجل)والأغنية الشعبية(عبرت الشط على مودك/وخليتك على راسي) والأنشودة الحربية(بيهم كثروا الطك)و(يمه البارود من اشتمه ريحة هيل) ويدخلها في بنيته النصية لتعزيز فكرته وتقويتها وتوصيلها للمستهلك بتعبير موجز..مكثف الدلالة مكتنز بالتجربة الحياتية..حتى أنه يحاول خلق نوع من الانسجام بين الموضوع النصي ومضمون التقنية الفنية التي يوظفها لأنها تدور في فلك الذاكرة التي تجره لاستخدام تقنية الاسترجاع flash back ويمزجها بأحداث الحاضر التي تتنفس فكره ووجوده..ولا يفوتنا أن نذكر أن معظم تضمينات الشاعر وتقنياته الفنية يسودها الطابع المأزوم الذي يعبر عن الحرمان المادي والاغتراب المجتمعي وتجسيد اختلاجات الذات الانسانية المثقلة باعباء الحياة..فضلاً عن أنها تؤدي غرضاً سياسياً يُعري واقعاً مهزوماً ويدين الحروب..

ومن كل هذا نخلص الى أن المنتج(الشاعر) قدم نصاً ملحمياً منتظماً بخط متناسق يقوم على درامية عبر انعكاسات الذات المتحركة داخل نسيجه الشعري وأنساقه التي تتجلى فيها التحولات التركيبية وما ينجم عنها دلالياً..مع اتسام عوالمه بالوعي الذي يعني الموقف الفكري الملتصق بالإنسان والذي ينم عن تجربة محكمة في معانيها وهي تتكىء على بعض الأساليب البلاغية والمعرفية الكاشفة عن خزين ثقافي يمتلكه المنتج محققاً من خلاله سايكولوجية التواصل الشعري بوصفه خطاباً غنياً بالدلالة من جهة ومن جهة أخرى محققاً الامتاع والاقناع بتساؤلاته..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. د. صالح مهدي حميد

    دراسة نقدية مثيرة للاهتمام وجديرة بالقراءة حقا. أفترض أن موفق محمد يستحق أن يتخذ له مكانا ممتازا في مساحة النقد الشعري العراقي.

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: عميدة الموسيقيين

الكشف عن الأسباب والمصائر الغريبة للكاتبات

النقد الأدبي من النص إلى الشاشة

صورة الحياة وتحديات الكتابة من منظور راينر ماريا ريلكه

وجهة نظر: كيف يمكن للسرد أن يحدد الواقع؟

مقالات ذات صلة

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا
عام

علاقة الوعي بالمعنى والغاية في حياتنا

ماكس تِغمارك* ترجمة وتقديم: لطفية الدليمي بين كلّ الكلمات التي أعرفُها ليس منْ كلمة واحدة لها القدرة على جعل الزبد يرغو على أفواه زملائي المستثارين بمشاعر متضاربة مثل الكلمة التي أنا على وشك التفوّه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram