TOP

جريدة المدى > عام > رافائيل البرتي ينثر أوراق غابته الضائعة

رافائيل البرتي ينثر أوراق غابته الضائعة

نشر في: 25 أغسطس, 2020: 06:49 م

شكيب كاظم

وحدها المصادفة كانت السبب في ترجمة هذا الكتاب الذكرياتي المفعم بالحميمية والحكايا، التي لولا أهميتها لما علقت بالذاكرة، ومن ثم دونها في غابته الضائعة،

فلولا تلك المناسبة التي شاهدتها الطالبة العراقية الذاهبة لدراسة اللغة الإسبانية؛ القشتالية تحديداً، لما نعمنا بقراءة هذا الكتاب الفياض، ففي ذات شتاء مدريدي، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وجدت نفسها على غير موعد، تصغي إلى الشاعر الإسباني الشهير (رافائيل البرتي) يلقي قصائده بتلك القاعة المكتظة بجمهور يفيض حماسة وشباباً وتوقداً، يستمع إلى شاعره الذي أحبه، الذي كان يقابل فيض مشاعره، بمزيد من الشعر، هو الذي نشر الجزء الأول من ذكرياته سنة 1959، وبسط حياته حتى 1931، وإذ طال عليه الأمد ظل قراؤه وأصدقاؤه يحثونه على تدوين ما مكث في ذاكرته، وإذ رأوا تكاسله وتأجيله، سأله أحدهم.

- أتتوقع أن تتمها بعد وفاتك؟!

كان قد بلغ من الكِبَر عِتيّا، كان قد تجاوز الثمانين من العمر، فبدأ يكتب ما يعِنّ له، من غير ترتيب زمني، أو كما يقول، تبعا لما ستحمله إلي الريح منها؛ من أوراق غابتي الضائعة، هذا الجزء الذي يضيىء سنواته منذ 1931 وحتى1987، وهو ما رأته المترجمة الحاذقة (باهرة محمد) جديراً بنقله إلى العربية، مع مراجعة دقيقة متفحصة للنص المترجم تولاها الدكتور مجيد بكتاش المعروف بعلميته ورصانته.

إذا أراد أحد أن يستعيد حوادث الحرب الأهلية الإسبانية، التي عصفت بأسبانية منذ تموز 1936 وحتى 1939، حيث تمردت بعض الفصائل العسكرية بقيادة الجنرال فرانشسكو فرانكو، على سلطة الدولة الجمهورية، التي عرفت بيساريتها وبتحريض ودعم من الدكتاتور الإيطالي موسوليني، والألماني أدولف هتلر، فإن رافائيل البرتي في ذكرياته الحميمة في (الغابة الضائعة) ينقل تفاصيل تلك الأيام العاصفة، التي نافت على الثلاثين شهراً، وانتهت باندحار الجمهوريين، حيث يرد ذكر العديد من الأدباء المعروفين الذين شاركوا في القتال إلى جانب الجمهوريين اليساريين؛ بابلو نيرودا، وإيرنست همنكوي، فضلاً عن فصيل آخر قد لانعرف عنهم شيئاً، ويقف طويلاً عند بعض هؤلاء الذين غادروا بلدهم، وما استطاعوا التأقلم في بلدان المنفى، فضربتهم الكآبة، وظلوا يرنون- وقد طال عليهم أمد النفي والغربة- إلى العودة إلى بلدهم، فهذا (خوسيه إيريرا بيتيري)، الذي على الرغم من عيشه في سويسرة مع زوجته وأولاده الثلاثة، عيشة رخية عذبة وعلى ضفاف بحيرة جنيف، كان يشعر بالصقيع يجتاح روحه، يخبر صديقه إلبرتي، إنه يعبّ من الشراب لينتحر إنتحاراً بطيئاً، لأنه لا يمتلك الشجاعة الكافية لينتحر برصاصة، أو يرمي نفسه في بحيرة ما. كان المنفى قاسياً، لم يستطع احتمال البقاء منفياً مقطوع الجذور بعيدا عن إسبانية. تنظر ص١٤٦.

لويس أراكون

رافائيل البرتي، يخصص ورقة من أوراق غابته الضائعة هذه، للحديث عن الشاعر الفرنسي الشهير (لويس أراكون) الذي تعرف إليه في ليلة شاتية صقيعية موسكوية، ودرجة الحرارة انخفضت تحت الصفر بأكثر من ثلاثين درجة! حصل ذلك بداية عقد الثلاثين من القرن العشرين، كان الشاعر الشيوعي زاخرا حماسة وتألقاً، إلى جانب زوجته وعشيقته (إلزا تريوليه) شقيقة (ليلي بريك) حبيبة الشاعر الروسي (ماياكوفسكي) المنتحر خيبة وهو يرى المآل الذي آل إليه الحلم الشيوعي الذي غنى له طويلاً، لكن الحماسة قد خبت تدريجاً بعد أن طوى الموت (إلزا) سنة 1970 وعاش وحيداً أرمل، وزاد الخبو حين ضربته سيارة مسرعة أقعدته، يقودها شاب متهور، لكن وإذ عرف الشاب من الذي ضربه بسيارته، ظل يعوده معتذراً حتى شفي اراكون وبل.

ظلت إلزا تحيا تمزقاً هوياتيا وثقافياً، فهي تحيا بوطنين؛ وطنها الأصلي روسية، والوطن الجديد؛ فرنسة، فضلاً عن تمزق لغوي؛ روسي، فرنسي لتؤكد: إن أشد الأمور صعوبة أن يكون المرء أجنبياً في فرنسة، وهذا ما لمستُه في عديد الأعمال الروائية، ومنها رواية (سهرة تنكرية للموتى) للأديبة السورية المغتربة (غادة السمان) فالمجتمع الفرنسي صعب القبول للآخر، ويشعره بذلك منذ المدرسة الابتدائية، لا بل يكون حتى الاسم سبباً للبعد والإقصاء، كما تقول غادة في روايتها هذه، فضلاً عن ما قرأت في بعض مذكرات الأدباء العرب ممن عاشوا في فرنسة.

بابلو بيكاسو

وكان لا بد أن يخص صديقه ورفيقه (بابلو بيكاسو)؛ أشهر فنان تشكيلي في القرن العشرين، تحدث عن معارضه، عن لقاءاته، وخصص له أكثر من فصل، لكن هذا الفصل الثالث والثلاثين، خصصه لموت بيكاسو في الثامن من شهر نيسان 1973، قبل أيام من إقامته معرضه الثاني المدهش، وقبل أن يكمل سنته الثانية والتسعين، مات بيكاسو، هكذا صرخت الدنيا، فركب رافائيل البرتي الطائرة نحو الريفيرا الفرنسية؛ حيث كان بيكاسو يقيم مع زوجته الأخيرة الأثيرة إلى قلبه (جاكلين)، لكن الجو العاصف الصقيعي الممطر، حال دون حضوره الجنازة، هو الذي تعرف إليه سنة 1931، في باريس، وظلت صداقتهما المثمرة متواصلة حتى يوم الرحيل.

لقد ظل الباب الحديد لـ(نوتردام دوفي) مسكن بيكاسو مغلقا أمام الجموع التي توافدت من قرى الريفيرا الفرنسية ومدنها وأوربة والعالم أجمع، بقرار من زوجته.

يقول البرتي، شعرت باليأس وكان الثلج يتساقط غزيرا، لكن هذه المرأة ما استطاعت الاستمرار بالعيش بعد رحيل قرينها بيكاسو، فعصفت بها كآبة مدمرة وعزلة عن الدنيا، أنهتهما برصاصة في صدغها. 

لكن هذا المنفي؛ الشاعر الشيوعي الذي قاتل مع الجمهوريين، رافائيل البرتي يعود إلى وطنه تلبية لدعوة حزبه للترشح في الانتخابات التي ستجرى سنة 1977، في ظل الملكية الدستورية، وبعد نحو سنتين من وفاة الجنرال فرانكو خريف سنة 1975، ليفوز بالمقعد النيابي الوحيد الذي فاز به حزبه، ولأنه لم يخلق نائباً، بل شاعر؛ أو شاعرا! يواجه الناس في القاعات والساحات، تنازل بعد أربعة أشهر عن مقعده النيابي بموافقة حزبه، مؤكداً: أما أنا فسأظل أُهرَع إلى الشارع كلما ناداني (..) على الرغم من أني سأبقى أحلم دوماً بنجمة حمراء صافية تلوح في أفقه.تنظر.ص 306

فيدريكو غارثيا لوركا

رافائيل البرتي؛ الشاعر الأسباني الأشهر، الذي إمتدت حياته على القرن العشرين كله، إذ ولد في السنة الثانية من ذلك القرن، وغادر الحياة والقرن العشرون يوشك على رفع ساريته، أو صاريته ليرحل، سنة 1999، والذي عاش حياة صاخبة حافلة، هو الذي قاتل مع الجمهوريين، حتى إذا خسروا الحرب أمام قوات الجنرال فرانشسكو فرانكو، غادر بلده لواذا، فمن بقي كان مصيره السجن الطويل، أو الإعدام، فانتقل للعيش في باريس، حتى إذا وطئتها البساطيل الهتلرية، غادرها نحو الأرجنتين، على الرغم من الحكم العسكري فيها، وظل يحيا من غير جواز سفر، بعد أن أسقطوا جواز سفره الإسباني، وشبه متخف، اكثر من عقد من الزمان، توجه نحو إيطالية، وأمضى العمر يكتب شعرا، ويلقيه في المؤتمرات والندوات في أصقاع الدنيا، عاش حياة المنفى نحو أربعة عقود، الشاعر الملحد، الذي آل إلى رماد ذُرّي في المحيط الأطلسي قريبا من قادش حيث ولد، وتزوج بأكثر من امرأة، وإذ كان ذكر زوجته ( ماريا تريسا) يتوالى في الفصول الأولى من أوراق غابته المتناثرة هذه، فإن ذكرها وذكراها تطويهما الأيام، إذ أصابها مرض فقدان الذاكرة، هي الأديبة الروائية، لترحل سنة 1988، ليقترن بشابة صغيرة مفاخرا، أنها أعادت إليه شبابه!

رافائيل البرتي، الذي أحب العرب الأندلسيين، معترفا في مواطن عديدة من مذكراته هذه (الغابة الضائعة) بفضلهم وحضارتهم، وما خلفوا وراءهم من شواخص معمارية راقية، البرتي في حياته الممتدة الصاخبة، يروي لنا مروياته، ولا شك أنه يذكر عديد أصدقائه من الشعراء والكتاب والمسرحيين والسينمائيين والسياسيين، لأن ذاكرتي- كما يصفها- فهرس لا ينتهي، دليل أسماء كبير، مفكرة لا آخر لها عمرها نحو خمسة وثمانين عاما، شطبت أيا مها يوما فيوما، بعلاقات، بمحاولات وأشخاص. تنظر ص397

نعرف النزر اليسير منهم، ومن هذا النزر اليسير؛ الشاعر الجمهوري القتيل صديق شبابه الأول، تعرف إليه سنة 1922،في القسم الداخلي الخاص بإقامة الطلاب، وظلت صداقتهما ممتدة حتى يوم غادر ( لوركا) مدريد نحو غرناطة ليقع بيد القوات الفرانكوية، وليقتل شر قتلة، ركلا بالبساطيل العسكرية وأعقاب البنادق، قرب موقع يقال له ( عين النبع) هكذا سمى العرب الأندلسيون هذا الموقع، يوم إقامتهم في تلك الربوع الفينانة الغنّاء، لكن ظل هاجس موت لوركا يؤرقه، لقد كان يخال أن الموت قد أخطأه، فذهب إلى لوركا، أما السبب- كما يرى- فلأن لوركا كان جمهوريا فحسب، محبا للحزب الشيوعي، الذي يراه حزب الفقراء، في حين كنت شاعرا أحمر منتظما في الحزب، أحد الذين يجب قتلهم من غير شفقة!- كما يقول-٠

حين يعود إلى وطنه إسبانية، تدعوه بلدية غرناطة لحضور حفل إستذكار لوركا بعد نحو نصف قرن على قتله فجر الثامن عشر من حزيران سنة 1936، ويلقي قصائد بالمناسبة، لكن ما ظل يؤلمه وهو يحضر حفل الاستذكار ذاك، أن لو يعثر على أحد أبناء تلك السنوات التي زامل فيها لوركا، ولكن.. فلقد طواهم الموت، وكان وحيدا..

 

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram