ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
تضمّ الثقافة الثالثة أولئك العلماء - ونظائرهم من سائر المفكّرين - العاملين في نطاق العالم الإختباري Empirical ،
والذين يجاهدون عبر أعمالهم وكتاباتهم على الحلول محلّ المثقفين التقليديين ، وهم إذ يفعلون هذا فإنهم يلقون أضواء جديدة على المعاني الأكثر عمقاً التي تنطوي عليها حياتنا ، فضلاً عن أنهم يعيدون تعريف ( من نحنُ ؟ ) و ( مانحنُ ؟ ) في سياق مايُعرفُ بِـ (الأسئلة الكبرى Big Questions) التي تتناول طبيعة كلّ من الكون والحياة والوعي .
أقدّم أدناه ترجمة لآراء مجموعة منتخبة من العلماء والفلاسفة بشأن ( الثقافة الثالثة ) ، وقد وردت هذه الآراء في كتاب ( الثقافة الثالثة : مابعد الثورة العلمية The Third Culture : Beyond Scientific Revolution ) الذي حرّره جون بروكمان John Brockman ونشره عام 1996 .
المترجمة
القسم الأوّل
ستيفن جاي غولد
عالم بيولوجيا تطوّرية
الثقافة الثالثة فكرة مؤثرة للغاية . ثمة أمرٌ ما - أقرب مايكون لإحساسٍ بمؤامرة - يشيع بين المثقفين الأدبيين ويدفعهم دفعاً إلى الإعتقاد بأنهم وحدهم الذين يحوزون مفاتيح المملكة الفكرية فضلاً عن الحق الحصري في إجراء المراجعات والنقودات الخاصة بالمطبوعات الجديدة ، ويتعمّق هذا الإحساس بالمؤامرة المزعومة في كلّ مرّة تطرحُ فيها طائفة من الكّتّاب غير الأدبيين ( ومن حقل العلوم بخاصة ) عدداً من الأفكار الجديدة الملهِمة ويدعون الناس لقراءتها والتمعّن في خلفياتها الفكرية المدهشة . الحقّ أنّ معظم هؤلاء الكُتّاب العلميين أناسٌ في غاية الرصانة ، ويستحقون أعظم الإحترام ، ويعبّرون عن أفكارهم بطريقة رائعة .
سبق للعالم البريطاني ( بيتر مدوّر ) ، وهو عالمٌ مثقّف ومتمرّسٌ في الكلاسيكيات والدراسات الإنسانية ، أن صرّح برأيه القائل بأن ليس من العدالة في شيء عندما يُحسَبُ العالِمُ الذي لايتوفّرُ على معرفة رصينة بالموسيقى والفن رقيعاً أخرقاً وجاهلاً بحسب رؤية المثقفين الأدبيين ؛ في حين أنّ هؤلاء المثقفين الأدبيين أنفسهم لايرون أدنى نقيصة أو مثلبة في ذواتهم إذا لم يكونوا يتوفّرون على أبسط مفاهيم العلم ، والأنكى من ذلك أنهم لايرون أية حاجة لهم لمفاهيم العلم لكي يكونوا مثقفين حقيقيين وبطريقة باتت الثقافة معها وقفاً حصرياً لهم ! إذن ، لكي تكون مثقفاً بحسب رؤية المثقفين الأدبيين فإنّ كلّ ماتحتاجه هو أن تعرف الكثير عن الفن والموسيقى والأدب ولاشيء من العلم !! .
هذا ليس أمراً صحيحاً أو مقبولاً بأي شكل من الأشكال ، وهو لايعكس الواقع كذلك . نعم قد تكون حقيقةً نشهدها على الأرض إذا ماقلنا بأنّ بين الثلاثمائة مليون أميركي لاتوجد بينهم سوى نسبة ضئيلة للغاية ممّن تفهم العلم والمفاهيم العلمية بطريقة ممتازة ؛ لكن في المقابل فإنّ بين الأمريكان الذين يداومون على شراء الكتب - وهم نسبة ليست قليلة بحساب العدد المطلق وليس كنسبة من الشعب الأميركي - فإنّ الشغف بالعلم ومفاعيله العملية يبدو قوياً ولايفتأ يتعاظم يوماً بعد آخر .
موراي غيلمان
عالِمُ فيزياء نظرية
إعتاد العلماء على كتابة كتبٍ موجّهة للعامّة من القرّاء الشغوفين - هؤلاء الذين يكترثون كثيراً لأمر العلم ولهم معرفة بالأبجديات العلمية إلى حدّ مقبول . مرّ ثمّة وقتٌ خفتت فيه تلك الفعالية ونضبت وكأنها قاربت تخوم الإنطفاء في هذا القرن - القرن العشرين ، المترجمة - على الأقلّ ، وأرى أنّ الأمر بات علامة صحّة ونشاط بعد أن صرنا نشهد توجهاً متزايداً عدداً متزايداً من العلماء الذين يكتبون بشأن طبيعة عملهم العلمي ويخاطبون العامّة بصورة مباشرة أو عبر وسائط من الوكلاء الأدبيين أو الصحفيين المتمرّسين . لطالما كان بعض العلماء أقدر من سواهم بكثير في كتابة الأطروحات العلمية الموجّهة للجمهور العام ، وثمة البعض منهم يتوفّرون على خلفية ثقافية أكثر شمولاً ونطاقاً من ثقافة الآخرين ؛ ولكن بين هؤلاء العلماء الذين أنجزوا أعمالاً جديرة بالإهتمام بشأن مخاطبة الجمهور العام كان دوماً - وسيكون كذلك في المستقبل - عدد صغير ممّن أصابوا نجاحاً مدهشاً في إشاعة المعرفة العلمية الدقيقة - فضلاً عن السياسات العلمية - من غير الحاجة إلى التعكّز على جهود الوسطاء الصحفيين والعاملين في قطاع النشر ووسائل الإعلام .
إنّه لأمرٌ يؤسف له أشدّ الأسف إذ نشهد بعض المشتغلين في حقول الفنون والإنسانيات ، بل وحتى بعض العلوم الإجتماعية ، ممّن ينتشون حتى الثمالة عندما يصرّحون بتفاهة معرفتهم في حقول العلم والتقنية والرياضيات ، ويرون في هذه الضآلة المعرفية منقبة محمودة . المدهش في هذه الظاهرة أن نقيضها غير صحيح ؛ فأنت قلّما تلتقي عالماً لايعرف شكسبير ولا يتيه به جذلاً ، وفي كلّ الأحوال أنا موقنٌ بأنّك لن تعثر على عالِمٍ يطرب لمحدودية معرفته بشكسبير أو لعدم معرفته بالعالم الشكسبيري .
دانييل سي. دينيت
فيلسوف
المثابة البارزة التي صارت خصيصة مميزة للنجاحات الراهنة التي أحرزتها الكتب التي تتناول العلم - بموضوعاته العديدة - تعود في جوهرها إلى طبيعة التشبيك المعرفي والتداخل المفاهيمي بين المساعي العلمية الحديثة . عندما يكتب الأساتذة المتمرّسون لزملاء لهم في حقول علمية أخرى أو للقرّاء الشغوفين فيتوجّب عليهم أن يكتبوا بلغة بسيطة واضحة ومباشرة لكي يتجاوزوا تعقيدات الرطانة المفاهيمية التي يحفل بها حقلهم الخاص . لو كنتُ أنا - مثلاً - من يكتب كتاباً أخاطب فيه الفلاسفة فحسب ( والفلسفة ميداني الخاص كما تعلمون ) فسأكتب بطريقة تتماهى مع ماوصفته أعلاه وللسبب ذاته الذي أوردته . أعلم تماماً خفايا معضلة الرطانة المفاهيمية التي لابد أن تكون حاضرة في كلّ حقل معرفي ، وربما تتعاظم مفاعيل هذه المعضلة مع الفلسفة . إنّ الكثير من المعضلات المصطنعة السيّئة التي تنشأ في حقل الفلسفة إنما تنبثق بسبب سوء صنيع المتمرّسين الفلسفيين الذي يتحدّثون مع متمرّسين فلسفيين نظراء لهم في الخبرة والمكانة الأكاديمية ، والإثم الأعظم الذي قد يرتكبه المتمرّس الخبير وهو يخاطبُ نظيراً له هو في الإستفاضة بالشرح والإيضاح على النحو الذي يعكس إستهانة بالطرف المقابل ، وتلك مثلبة خطيرة ومعيبة . في الوقت ذاته يخطئ المتمرسون الخبراء إذا ماتقصّدوا الشحّ في توضيح الفكرة المطروقة والكشف عن حيثياتها ، وكنتيجة لتلك الحالتين السائدتين يحصل أن يتجاهل الخبراء بعضهم ويمضون في الكتابة وكأنهم يخاطبون أنفسهم . إنهم لايدركون حقيقة كونهم لايتشاركون المفترضات العامة الشائعة فيما بينهم ، وتلك هي البؤرة الخلافية لكل هذه المعضلة الإشكالية في الكتابة . ينبغي أن ندرك أن موارد هذا الخلاف الفكري - الذي يمكن أن يتفاقم ليكون شكلاً صراعياً نافراً - إنما تنشأ بسبب سوء فهم متبادل كامن في بضعة أفكار صغيرة أساسية وحسب .
ثمة إختلافات جذرية تميّز الجامعات الأوروبية عن تلك الجامعات التي تنتمي لفضاء الثقافة الإنكليزية . في أوروبا ، الأساتذة الجامعيون المتمرّسون يتأستذون : تتوفّر لهم دوماً منصات تدريسية يلقون منها دروسهم ، ويكتفي طلبتهم بتسجيل ملاحظات من غير أن يسألوا أسئلة ، وثمة علامة ممهورة بأسمائهم مفادها أنهم عصيون على الفهم ولاقدرة للآخرين على ولوج عوالمهم الفكرية . هذه هي المقاربة التي يصنعون بها شهرتهم : أن يظلوا منزوين في عالم يلفّه الغموض والملغّزات الفكرية . من جانب آخر لايحصل مثل هذا الأمر في الجامعات الإنكليزية ؛ بل ويبدو غريباً طارئاً على تقاليدها الراسخة ، ولستُ أعلم فيما لو كان مثل هذا الشيء يحصل في الحقول العلمية في الجامعات الأوروبية ؛ لكني أعلم أن شيئاً منه يحصل في الحقول غير العلمية ، أو شبه العلمية ، أو في حقل الكتابة الفلسفية لبعض العلماء الأوربيين المرموقين . ( جاك مونو ) و ( فرانسوا جاكوب ) هما مثالان فحسب ؛ فقد طمحا ليكون في عداد الفلاسفة ، وهذا أمر حسنٌ سار على خطاه العديد من العلماء المنضوين في الثقافة الإنكليزية .
جميع التعليقات 1
عصام محمد
ترجمة ونقل رائعين .. حقيقة بحثت كثيرا في الشبكات العنكوبتيه عن مواضيع تفيدني وتعمق من ثقافتي البسيطة فوقعت على هذه الترجمات المتضمنة مواضيع هامة جديرة بالاهتمام والنقاش الدسم .. تحية وتقدير لهذا الجهد الرائع منكم