اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > قناطر: مسعىً في ترميم القول

قناطر: مسعىً في ترميم القول

نشر في: 31 أغسطس, 2020: 06:35 م

 طالب عبد العزيز

كم مكلف هذا التلفت، ويا له من شقاء، هذا الذي لا تعرف فيه ماذا يريد منك غريمُك، وكم ثقيلة هذه النظرة التي تتلقاها منه كل يوم. باهظ جداً والله، ثمن ما تضمره لي، ويغضبني هذا الذي يوغر صدرك، أوقفتني بين يقينك ويقينك ثم طالبتني بما تريده مني، أين أنا منك ؟ وقد أخذت الحجر والمذر اليك، وتركتني في سبخة ما لا أريده لك ولي، أنت تنزع جلد المعني وأنا أرمم القول بما يناسبك، ذلك لأنني حدُّ الدم، ولأنك حدُّ السيف. 

أختلف عنك فأنا رجل مسكون بالحياة. أعانني الشعر على قتل الوحش الذي في صدري. عندي روح ترتعدُ فرحاً أمام مشاهد الصدق والنبل والحب والرقة والعذوبة ... وفي قلبي موضع لا تدرك معانيه إلا الملائكة التي لم تخلق إلا للنور، ولا أقول شعراً، إنما لا أكاد أمسك دموعي في مشهد عصفورين متحابّين على سعفة. وسأذهب أبعد من ذلك لأقول:" لطاما اجتنبت رشَّ الماء في أمكنة اتخذها النمل مسارب لنقل مؤونته في غرفة النوم، فانا لا أطيق تخريب مساكن المخلوقات الضعيفة هذه، ولطالما اعترفت بظلمي للحشرات الصغيرة، ذات الإبر الصماء، وأنا أجمع العسل من خلايا النحل التي ربيتها، ومنحتها من جهدي ومالي الخاص الماءَ والسُّكرَ والرفقة والطعوم، هناك شيء من صحبة مع الاشياء هذه، ويؤذيني أنني أستعملها طامعاً ومتصالحاً، المخلوقت البائسة هذه تريني صلفاً وعنجهية في روحي، هناك ضميرٌ خفيٌّ يمنعني من التجاوز على ما هو حق وتقليدي في الحياة. فأنا لا أجرؤ على قطع سعفة تضايقني في نخلة، علّتي في ذلك أنها ربما كانت مأوى لفاختة، أو أنَّها صلُحت موضعاً لقدم بلبل غريب، لا أتحدث شعراً، أبداً، لكنني مخلوق حزين في تعامله مع الأشياء الضعيفة، في عالم يتحققُ بأساً وقوةً ونذالة.

أشفق على الذين يتوقوفون طويلاً عند القضايا الانسانية الكبيرة، على عظمتها، ويغمضون أعينهم عن آلاف القضايا والمواقف النبيلة، التي صنعها أناس عاديون، لكنها عصفت بالضمير الإنساني. مع يقينهم بأن العدل والظلم لا يتجزآن. أمضى (يحيى العيّاش ) رحمه الله، حياته فلاحاً في أحدى قرى ابي الخصيب النائية، يحرث ويغرس ويجني، وحيداً في غابة من النخل شائكة، لكنه لم يرزق بولد، بل ولم يكن له عقب حتى، ثم أنه أصيب بالشلل الذي أقعده فيما بعد، فصار يُفلح الأرض مستعيناً بعكّازه، يستقيم مرة ويسقط أخرى، ترفعه راية الأمل مرة وينوء بحمل خسرانه مرات ومرات، وفي لحظة انسانية صادقة صاح بشبيهه في الحرمان من الولد، الفلاحَ اليائسَ الآخرَ (خوّام العبدالله) صيحته التي دوّت وما زالت مدوية في النخل:" أصعدْ له، لا تتركه ينساك، خذ من غضبك ويأسك وقوتك ونحولك وكل ما بين يديك من العدل والظلم عنده سلماً وأصعد له، قل له أن يمنحك من ولده وغلمانه واحداً، واحداً لا غير، لئلا تكون كما تراني عليه".

خلف الصيحة المدوية هذه، صيحة يحيى العياش هناك ما لايحصى من الظلم والألم والفقد والنسيان، ومثل الإصغاء الذي توقف عنده خوّام العبدالله هناك ما لا يمكن تصوره من السلالم العاطلة التي لم يبلغ أصحابها بها السموات، ومثل جيف مكتوبة على تلال مهجورة تفسخت صيحات كثيرين في فضاءات وأزمنة لم يرصدها أحدٌ، ولم يسمعها ربٌّ لهم، لكنهم، ما زالوا الى اليوم، يكررون صيحاتهم، بذات الحناجر المبحوحة، بذات الوجوه الشاحبة المطلية بالحاجة والجوع والندم ... الصيحات اليائسة تلك ظل النخل يفرقها في الريح، وتتناوب الأنهار تغرقها في الأنهار، يمرُّ العابرون بها فلا يعيرونها انتباهةً.. أما، نحن، الذين طال وقوفنا في المفاوز والمديات فقد اتخذنا من يأسنا مادة لحياة لا معنى لها ونمنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

للحفاظ على «الهدنة».. تسريبات بإعلان وشيك عن موعد انسحاب القوات الأمريكية

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

التجنيس الأدبي والاكتفاء الذاتي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

العمودالثامن: حصان طروادة تحت قبة البرلمان

 علي حسين في ملحمته الإلياذة يروي لنا الشاعر الاغريقي هوميروس كيف أن أسوار مدينة طروادة كانت عصيّة على الجيوش الغازية . فما كان من هؤلاء إلا أن لجأوا إلى الحيلة فقرروا أن يبنوا...
علي حسين

قناديل: أما كفاكُمْ تقطيعاً بأوصال الوردي؟

 لطفية الدليمي غريبٌ هذا الهجومُ الذي يطالُ الراحل (علي الوردي) بعد قرابة الثلاثة عقود على رحيله.يبدو أنّ بعضنا لا يريد للراحلين أن ينعموا بهدوء الرقود الابدي بعد أن عكّر حياتهم وجعلها جحيماً وهُمْ...
لطفية الدليمي

قناطر: من وصايا أبي المحن البصري

طالب عبد العزيز هذا ما كتبه ابو المحن المحسود البصريّ لاِبنهِ ذي الهمّة، الذي واصل الليل بالنهار، متصفحاً خرائط المدن والاسفار، عاقداً وشيعة الامل بالانتظار، شاخصاً بعينه الكليلة النظيفة، متطلعاً الى من يأخذ بيده...
طالب عبد العزيز

ريادة الأعمال.. نحو حاضنة شفافة

ثامر الهيمص مخرجات الشفافية, تمتاز عن غيرها, بأن ردود الفعل تأتي انية في النظر او العمل, مما يجعلها تمضي بوضوحها مستفيدة من هنات وليس عثرات تراكمت اسبابها مسبقا في عالم الا شفافية, اللهم الا...
ثامر الهيمص
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram