TOP

جريدة المدى > عام > الثقافة الثالثة.. آراء عددٍ من العلماء والفلاسفة

الثقافة الثالثة.. آراء عددٍ من العلماء والفلاسفة

نشر في: 1 سبتمبر, 2020: 06:01 م

ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

تضمّ الثقافة الثالثة أولئك العلماء - ونظائرهم من سائر المفكّرين - العاملين في نطاق العالم الإختباري Empirical ، والذين يجاهدون عبر أعمالهم وكتاباتهم على الحلول محلّ المثقفين التقليديين ،

وهم إذ يفعلون هذا فإنهم يلقون أضواء جديدة على المعاني الأكثر عمقاً التي تنطوي عليها حياتنا ، فضلاً عن أنهم يعيدون تعريف ( من نحنُ ؟ ) و ( مانحنُ ؟ ) في سياق مايُعرفُ بِـ (الأسئلة الكبرى Big Questions) التي تتناول طبيعة كلّ من الكون والحياة والوعي . 

أقدّم أدناه ترجمة لآراء مجموعة منتخبة من العلماء والفلاسفة بشأن ( الثقافة الثالثة ) ، وقد وردت هذه الآراء في كتاب ( الثقافة الثالثة : مابعد الثورة العلمية The Third Culture : Beyond Scientific Revolution ) الذي حرّره جون بروكمان John Brockman ونشره عام 1996 . 

المترجمة

 

القسم الثاني

ريتشارد دوكنز 

عالم بيولوجيا تطوّرية 

أشعر بعض الأحيان بالذعر عندما أرى نفسي مثل رهينة تخاطفته الجماعات الأدبية المهيمنة على الوسائل الإعلامية ، ليس مسوّغ هلعي المرضي كامناً في تضاريس مفردة " مثقّف " فحسب بل في منشورات أعاينها الفينة والأخرى ، ومن تلك المنشورات ، مثلاً ، مقالة لناقد أدبي خلع عليها العنوان التالي " النظرية : ماهي ؟ " ، هل ستصدّقُ الأمر لو قلتُ لك بأنّ مفردة " النظرية " بحسب مفهوم ذلك الناقد الأدبي صارت تعني ( نظرية في النقد الأدبي ) بطريقة حصرية ! ، ومايفاقم من الشعور الدرامي إزاء هذه الواقعة أنها لم تنشَرْ في مطبوعة خاصة بالنقد الأدبي بل في مطبوعة عامة موجهة لعامة القرّاء الشعبيين على شاكلة صحف يوم الأحد البريطانية . ماذا يحصل حقاً ؟ لقد تمّ إختطاف مفردة " النظرية " ذاتها لتخدم غرضاً أدبياً متطرفاً في ضيقه وأصوليته الأرثوذكسية ، وسيكون من نتائج تلك الأصولية أن ( آينشتاين ) لم يأتِ بنظريات ، وكذلك سواه من العلماء الافذاذ المعروفين في التأريخ الفكري للبشرية . 

أطري كثيراً من جانبي على الحقيقة التي تؤكّد قدرة العلماء والأساتذة الأكاديميين ، بعامّة ، على نشر أفكارهم ومشاركتها مع بعضهم ومع عامّة القرّاء من حقول أخرى . إنّ كتبي ليست سوى مظاهر لأفكار جرى تحويلها لمادة فكرية مشاعة بين عامة الناس رغم أنها كانت مادة معروفة لعلماء البيولوجيا التطورية وتمثّلُ مساهمات أصيلة في حقل علمي ، وقد عملت أفكاري المنشورة في هذه الكتب على تغيير الطريقة التي يفكّر بها علماء البيولوجيا التطوّرية رغم أنّ تلك الأفكار لم تُنشر في مجلات علمية من قبل مثلما لم تُكتب بلغة مفعمة بالرطانة المفاهيمية المعتادة ؛ بل الحقّ أنها كُتِبت بمفردات يمكن لأي شخص ذكي وشغوف أن يفهمها من غير عناء . أتوق حقاً لرؤية الكثير من العلماء وهم يفعلون الأمر ذاته الذي فعلته قبلهم . 

سبق للعالم البريطاني ( بيتر مدوّر ) أن صرّح بوجود بعض الحقول المعرفية الصعبة بطبيعتها ، ولو أراد الباحث المتمرّس فيها الكتابة عنها فعليه العمل بمشقة لجعل اللغة المكتوبة سهلة مستساغة للقرّاء ؛ في حين توجد حقول معرفية أخرى سهلة للغاية في طبيعتها الجوهرية ، وهنا ستنعكس الحالة المقاربة السابقة ؛ إذ لو أراد الكاتب فيها إمتاع الجمهور القارئ وإدهاشه فيتوجّب عليه إضفاء بعض الصعوبة على اللغة المكتوبة وبأكثر ممّا يتطلّبه تناقل الأفكار وعرضها في هذه الحقول المعرفية بذاتها ، ثمة بعض الحقول المعرفية التي يعاني فيها القرّاء من " حسد الفيزياء " - بحسب التوصيف الجميل الذي إستخدمه مدوّر - ؛ إذ يتطلّع هؤلاء القرّاء أو المختصون في هذه الحقول المعرفية لأن يتمّ التعامل مع تلك الحقول بما يجعلها صعبة بمثل الصعوبة المعروفة للفيزياء حتى لو لم تكن تلك الحقول بعيدة عن ملامسة تلك التخوم الصعبة التي تبلغها الفيزياء ، الفيزياء علم صعب في جوهر حيثياته الأساسية ؛ لذا توجد دوماً مساعٍ ضخمة تسعى للتعامل مع الأفكار المعقدة في الفيزياء وتبسيطها إلى حدود متاحة لفهم الجمهور ؛ لكن توجد في الوقت ذاته ، وبطريقة معاكسة ، مساعٍ حثيثة لجعل الموضوعات الخاوية والمفتقدة لأي جوهر حقيقي تبدو وكأنها تحمل الكثير من الأهمية الجوهرية ، ويحصل الأمر في الغالب عبر إلباس تلك الموضوعات لبوساً يتخفى في إهاب رطانة لغوية غير مفهومة لاتبتغي مطلباً لها سوى التعمية الفكرية والخواء المفاهيمي لذاتهما ، وكلّ هذا يحصل من أجل جعل تلك الموضوعات تبدو نتاجاً فكرياً مستحقاً للإعتراف والتقدير على الصعيد العالمي .

ستيف جونز 

عالِمُ بيولوجيا تطوّرية

تكمن الطريقة الفضلى لتقييم فكرة " الثقافة الثالثة " في أن نتساءل : " هل كان يوماً ما اكثر من ثقافة واحدة ؟ " . هذا هو التساؤل الجوهري كما أرى . نستطيع الجواب بالقول : منذ عام 1550 وحتى عام 1950 ( أي على مدى أربعة قرون ، المترجمة ) فإنّ الجواب كان واضحاً بذاته . الثقافة هي الثقافة على الرغم من أنّ لاأحد بعد الشاعر ( ملتون ) يستطيع الزعم بمعرفته كلّ شيء . ثمّ جاء ( سي. بي. سنو ) لنا بلافتة عريضة - تشبه شعار الترويج لرقائق البسكويت في أعياد الميلاد ! - ، وتصف لافتة سنو هوة عميقة بين الثقافتين العلمية والأدبية . لستُ مقتنعاً أن ( سنو ) أطاح بأربعمائة سنة من الحضارة على الرغم من أنه - ربما - فقأ الهياكل الأنوية المنتفخة للبعض من المتخصصين الأدبيين المتغطرسين متوسّطي القدرة ممّن كانوا يحيطون به وقت نشر إعلانه الأشهر عام 1959 . 

السؤال السائد اليوم ، ومثلما كان عليه الحال أيام إعلان أطروحة ( سنو ) الشهيرة ) ، هو : هل توجد بالفعل ثقافة يمكن أن تكون مرجعية مقبولة لكلّ فرد يسعى ليكون مثقفاً حقيقياً معترفاً به على نطاق واسع ؟ الجواب ينبغي أن يكون - كما أرى - : لو لم توجد مثل هذه الثقافة فينبغي - بالتأكيد - تخليق واحدة . إلى جانب هذا ، مالم تكن فرداً قادراً على التواصل مع الآخرين بمفردات عامّة بشأن الموضوعات العلمية وغير العلمية كذلك فأنت لست مستحقاً لتوصف بِـ ( المثقّف ) .

بول ديفيز 

عالِمُ فيزياء نظرية وكوسمولوجيا 

إنّه أمرٌ في غاية المشقة إذا ماحاولنا فكّ الإرتباط المتعشّق بين المعضلات التي تثيرها ( الثقافتان ) و ( الثقافة الثالثة ) عن موضوعات الطبقية والإنحيازات المناطقية التي تستوطن المجتمع البريطاني حتى لكأنها باتت خصائص راسخة في هويته الثقافية ، إنّ واحدة من أبرز المعالم المميزة للحياة الفكرية البريطانية هي هيمنة جامعتين بريطانيتين عليها : أكسفورد وكامبردج ، وقد ترتّبت الأمور ( حتى صارت أمراً مفروغاً منه وفوق المساءلة والمجادلة ) بحيث يكون معظم السياسيين البريطانيين وأعضاء الهياكل المؤسساتية المؤثرة - قطاع الخدمة المدنية ، الإعلام ، والأفراد المتحكّمون بقطاعات الإعلام - هم من خريجي آداب أكسفورد ، وكنتيجة لهذه الحقيقة تجسّد مفهوم ( المثقف ) لدى العامّة بأنه جنتلمان يشوب شعره بعضُ الشيب ، لاتفارقه النظارة ، وسبق له أن درس الأساطير ( الميثولوجيا ) الإغريقية ، يشرب أصنافاً فاخرة من النبيذ ، ويقود - لغرض التنزّه والتأمّل - قارباً في أحد الأنهار الصغيرة المحاذية لجامعته الموغلة في القِدَم . من الطبيعي أنّ إدراكاً جماهيرياً لصورة للمثقف تتماهى مع الصورة السابقة ستكون كفيلة بتدعيم شعور لدى عامة الناس بأنّ المثقفين الأدبيين لهم سطوة متفرّدة مطلقة لاتُنازع ، مبعثها قوة علوية تتسامى على البشر ؛ وبهذا سيكون لهم الحقّ في التناول الحصري لموضوعات الوجود البشري . 

لم يحصل سوى في السنوات القليلة الماضية أن مارس العلماء نمطاً من المقاربة المؤثرة لما يمكن توصيفه بِـ ( الأسئلة الكبرى ) في الوجود البشري ، وقد أثارت مثل هذه المقاربة ردّة فعل قبيحة للغاية . إنّ حقيقة قدرة العلماء على البدء بجعل أصواتهم مسموعة وقادرة على الإمساك بعقول أفراد الجمهور القارئ وقلوبهم معاً ( وتلك شاهدةٌ بيّنة تعكسها حقيقة المبيعات الضخمة للكتب العلمية ) باتت تستثير نمطاً مستهجناً من العويل المنبعث من بعض الحلقات الهامشية المحسوبة على الثقافة الأدبية ، وقد صار هذا العويل الصخّاب يتمظهر أحياناً في إعلانات أو أطروحات هستيرية في الصحف والمجلات الدورية ، ونُشِر سيل جارف من الكتب التي تقلّل من شأن العلماء وتصفهم بأنهم متغطرسون مخادعون لايجيدون سوى خدمة مصالحهم الشخصية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram