TOP

جريدة المدى > عام > الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

الراوي مبتكر ومُخلِق للسرديات

نشر في: 5 سبتمبر, 2020: 06:43 م

ناجح المعموري

2

كنت قد نشرت مقالاً عن " تشكيل الجماعات ثقافياً " وركزت على مصطلح الجماعات ، لأنه قادر على استيعاب الآراء والتصورات الخاصة بكل مجتمع ،

لأنه صار مصطلحاً جوهرياً وقد اعتمدته في كثير من الدراسات وما نشرته من قبل لابد لي من الإشارة للمفهوم الاجرائي للجماعة فهي عدد من الأفراد يعيشون بمكان مشترك . وتميزهم ثقافة / هوية ، اجتماعية ودينية ، وصاغت ذاكرتهم السردية وتمركزت مرآة خاصة بهم ، لذا سأذهب أولاً نحو المكان ، لأنه البؤرة الاجتما ــ سياسية وثقافية والميثولوجية للجماعة ، لأنه يشير جوهرياً لها . وظلت الهوية ذاكرة وخزاناً ، تحوّل الى ميراث ، تباهى به الأفراد صفة تخيلات باقية ، متباهية بأنها حاضر مستمر .

لا يمكن لأي مثقف تجاهل الدور الاجتما ــ سياسي الذي تمتعت به مدينة بدرة ، وأضفى عليها المبدع عبد الخالق حضوراً لائقاً للغاية ، مثلما قدم توصيفاً مركزاً وممجداً للحركة السياسية التي تغذت منها مدينة بدرة واكتسبت ما تمنحه أهم الفرص التاريخية للأفراد من التعلم والتعرف والتحول الى رموز اجتماعية بارزة جداً ولا استطيع إغفال رواية " المبعدون " للمبدع هشام الركابي والتي حفظت تاريخاً سياسياً بواسطة سرد مجيد . أما عبد الخالق الركابي فقد امتد كثيراً بتوصيفه للمدينة ، ليشبع رغباته المكبوتة وكأنه يريد الايفاء ما تطلبه وتريده وكثيراً ما قدمت لمن اختاره منفياً ما هو لائق بتاريخ السياسي . وأعتقد بأن فريد عمران حقق حلماً نادراً وفريداً ، لم يحز عليه إلا الآلهة المقدسة في الديانات الشرقية ، فريد عمران إله رفض الكثير من الجماعات في بدرة دفنه بمقبرتها وتحمس من ذهب لدفنه بالمزبلة ، لكن نديماً وهو يتابع ما وراء الشباك لمح فوق التل قبراً .... وعندما صعد اليه وجد بأنه قبر للأستاذ فريد عمران الذي صار إلهاً وسيبقى ووضعت امرأة لاحقاً باقة زهر على قبره . نفي الاستاذ غريد عمران الشيوعي وغرس بذوراً له في بدرة التي جعلته إلها لها واحتفظت به الذاكرة وتداولته المرويات واعتادت التواصل معه .

منحت بدرة الشيوعي المنفي تلاً مرتفعاً مماثلاً للالهة المصرية واحتفظت بذاكرتها المختزنة لسرديات خاصة لرجال من طراز خاص . أما مجهولية الشخص الذي وضع على قبره باقة زهر الرامز لمدينة بدرة التي أضفت عليه صفة إله شاب كإلاهة التي عرفتها ديانات الشرق بعد موتها / مقتلها يعاود الانبعاث في الربيع ويستعيد حياته وهكذا . وهذا التكرر تمجيد مهيب للأستاذ فريد .

تميزت رواية ( ما لم تمسسه النار ) بخصائص فنية مميزة لها ، وبهذا الخاصية اختلفت قليلاً عن رواياته السابقة . وميزة الرواية هذه سهلة ، بسيطة ، وهي سيادة اليومي / الوثائقي المعلوماتي ، المعروف لدى الأفراد والجماعات ، لكن كل هذا وغيره له انعكاس فني عميق ، واعني به تبديات شفافة لأصول اسطورية ، ومثل هذا الحضور غير المتداول أو الدال مباشرة على الأسطورة ، معقد وصعب ، لأنه يتمظهر عن اليومي التالف ، لكنه باق ، المدمر والباقي ، وهل هذه التبديات تتضح بمقترح القراءة الرمزية ، لأن المتحقق في الحياة اليومية من خلال الأحداث الصغيرة والكبرى ، وعبر الثنائيات بين الأفراد ، المذكر والمؤنث ، وبين المرأة والطبيعة ، كلما تنطوي رمزيات ، تشكل شبكات عديدة ، كثيرة ، ومتنوعة ولم تتكون الآن ، بل هي قديمة ، بدئية ، ابتكرتها الجماعات التي قادتها الأم الأسطورية الكبرى ، وجعلت منها خطاباً ثقافياً ودينياً ، وظفته بواسطة إبداعات قيادة المبدع وتخيلات الأفراد المتميزين بالفن والأدب . وقد غذتهما الأصول البكرية التي عرفتها الحضارة الاولى وظلت تغذيها وتكبر بها وتحوز عبرها ما يجعلها متناً إبداعياً استعانت به كل الفنون والآداب ، عند الاحتياج لوظائفهما ، المستدعاة لضرورات المكان المقدس / المعبد ، أو مزاولة السحريات والطقوس ، التي تستدعي حضور الجماعات للتشارك ، او مزاولة السحريات والطقوس التي تستدعي حضور الجماعات للتشارك بها والتخلص من الفعل الفردي وايلاء اهتمام جوهري لدور الفاعل الديني / رجل اللاهوت والاجتماعي ، بحيث تتأسس مضغوطات متعددة ، تتمتع كلها بحالات دينية ، مبتكرة ، وتتوفر على رموز / إشارات / علامات ، رسوم إيقونية ، اختام ، وتتبادل فن التواصل مع المجاور لها والمتحاور ، لأن استمرار الحضور للطقوسيات يعطيها حياة متجددة ، يضاف لها وتحوز ما تراه مجدياً ويتم هذا عبر التداول اليومي الطقوسي والشعائري ، وهذه الديمومة التواصلية تضفي على كل ابتكارات الأم الكبرى . 

التقطت ملاحظاتي في هذه الرواية اليومي المتسيد أكثر مما كان مألوفاً ، واعني به الشفاهية المبتكرة بتجدد ، بحيث لا تظل ثابتة بل دائماً متقشرة ومتجهة نحو الشفاهية المختلفة . ومثال هذا التعدد والتنوع بشحن الشفاهي بالمجاز والاستعارات وتتحول بالتتالي الى معجم تختزنه الذاكرات وتحتفظ به أرشيفات المقدّس وتطوره من خلال مزاولات روحية كالغناء والرقص وقراءة الشعر وتناول الخمور وممارسة طقوس الجنس المقدس في المعبد أو المعابد ، كل هذه الشبكة تستولد محكيات دائمة ، متطورة ومتحركة ، ويكون لها دور الفاعل القوي بتطوير الطبيعة / المبهجة لتسهم كما يعتقدون معهم ومع قواهم في إخصاب أرضهم ، هذه المنطقة السحرية ، التي يمتزج فيها السحر بالحقيقة ، الواقع بالخيال ، كانت وما تزال المنطقة التي تنصهر فيها القوى الغامضة مع القوى العملية مكونة النصوص الإبداعية ومنطلقات الخيال المادي للأشياء ، لتصبح حياتهم قوى غامضة أيضاً ولكن لها القدرة على تفسير نفسها ، إن الحياة اليومية التي تمزج بين حقلين كبيرين الروح والطبيعة ، وما فيهما من تباين وتنوع ، تفرض عليهم ثقافة التواصل . وسنجد أن أشكال هذا التواصل تتم عبر ثلاثة حقول : الذاكرة / الشفاهية / التراث / ياسين النصير / شعرية الحداثة / دار المدى / بغداد / 2018/ص323//

في الميثولوجيا العراقية والملاحم كانت الأنثى المقدسة والآلهة بوظائفهما الدينية ذات العلاقة القائمة المبكرة بين الروحي والطبيعة ويختبران معاً مساعدات الشعائر من اجل مزاولة الجنس كوظيفة دينية وسط المعبد او خارجه استجابة لوظيفة أكثر اتساعاً من أجل تجديد ، وتحقيق تغيرات في العلاقات بين الثنائي المذكر / والمؤنث ، ودائماً ما تكون الأنثى هي المعنية بالجنس المقدس والذاهبة اليه لاختبار حسيات جسدها المقدس ، المتوثب والدلائل كثيرة على لك خصوصاً ضمن مشروعي الخاص بالجنس والأسطورة .

ما يشبه الأحلام المختلفة ، المتباينة ، أحلام مستولدة باستمرار وتحوز هذه النماذج خصائص دينية وتتعايش كل هذه الابتكارات باعتبارها مجالات ذات صفات معتقدية ، روحية وتتكرس حياتياً بحيث تتحول الى أنماط يومية ذات تعايش قوي ونافذ بالمجاورة مع الآخر .

سأحاول المرور على بعض الحضورات السريعة والتي تبدو هامشية في هذه الرواية والتعامل معها متماثلات مع أصول شبكات بدئية مماثلة للتي أشرنا لها ، لكني أسعى من خلال ذلك للتذكير بالأسطورة أولاً والإشارة للإمكانات التي تنتجها وربما هي ليست كذلك ، لكن المتلقي يمسك بالشليلة التي متوفرة فيها ويتكشف الحضور الأزلي لأساطير الاولى التي انتجتها الجماعات لأنها ذات قيم جمعية واعتبارات لاهوتية ، وكلها معاً تشكل مجموعة عقائد روحية ومزاولات دينية ، شعائرية وتراجيديا ومناحات في الخسارات الفردية والجمعية لأنها نوعاً من الإعلان الكارثي والندب والمراثي . وما ينتجه اليومي المعروف لدى الأفراد ، أو الذي يفاجئ به الجماعات ليست منعزلة ، مهمشة ، ربما هكذا تبدو لكنها عبر التاريخ والذاكرة تتعايش تدريجياً وتتكون عالماً نفسياً مرتبطاً بالعقل الفاعل أو اللاوعي .

إن التوظيفات المهمة وذات الإلماح الشعري التي وظفها المبدع عبد الخالق الركابي لم تكن الحاجات ميتافيزيقية وقسرية ، بل هي شفافيات رامزة وعلامات خضعت للسيرورة وتكرست كياناً قوياً اعتادت عليه الجماعات ولعب اللاهوت دوراً طاغياً ، جعلها خطاباً استجابت له الأفراد بوصفه لغة ، لا يستطيع مقاومتها مهما تمظهرت عليها من قيم وأفكار ، لأن الكائن منجذب لما تتوفر عليه اللغة من سحريات ، دائماً ما تنجح في تعميق العلاقة القائمة بين الحياتي والروحي ، السماوي والأرضي والنجاح في توفير التجدد لحظة ما تتحقق الحاجة للنماء ، بعد سقوط المطر / اوماء القلب وهذا ما سيكون ضمن تأويلنا للسرد السهل والبسيط اليومي ونضع اليد على الرمزي والأسطوري .

يبدو ــ هكذا دائماً ــ تكون الأنثى العارفة لوظائف جسدها مع إلزامات جسد الآخر ، وهي التي تتعرف من خلال الرمزيات الموجودة والتي صاغت عتباتها الأمّ الكبرى / التي تؤدي وظائف الإلهة الاولى . وأنا لا أريد الإسهاب على مبثوثات اليومي ضمن الروحي الأسطوري البدئي ولكن سأكتفي بتلميحات مركزة تومئ للمتلقي بالاصول البدئية لليوميات التي اختطفها عبد الخالق الركابي بوصفها ميثولوجيات وطقوس وعناصر دينية .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

بمناسبة مرور ستة عقود على رحيل الشاعر بدر شاكر السياب

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

وجهة نظر.. بوابة عشتار: رمز مفقود يحتاج إلى إحياء

أربع شخصيات من تاريخ العراق.. جديد الباحث واثق الجلبي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

مقالات ذات صلة

فيلم
عام

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

ترجمة: عدوية الهلالييعرض حاليا في دور السينما الفرنسية فيلم "الجدار الرابع" للمخرج ديفيد أولهوفن والمقتبس من الكتاب الجميل للصحفي والكاتب سورج شالاندون - والذي يجمع بين حب المسرح والعيش في مناطق الحرب في لبنان...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram