طالب عبد العزيز
أحاول، دائماً أنْ أزجَّ نفسي في فريق المتفائلين العراقيين، إلا أن ذلك لا يتم لي. هناك صورة سوداء كبيرة، وبإطار أكبر، تعرض لي كلَّ ساعة صورة قاتمة، مدماة وبمنتهى القبح عن بلاد ليس لي ولا أشعر معها بالانتماء،
بلاد لم ترسم في خرائط الجمال التي أعرفها، هناك عراق لما يولد بعد، وأظنُّ بأنَّ آبائي وأجدادي أخطأوا في اختيار الوجود والمأوى، ولطالما بدت لي حضارة الـ 6000 آلاف سنة فارغة وبلا معنى، إذ، ماذا يعني أن يتمكن منك كل ذي مسدس كاتم، وكل ذي حزب قاتل، وكل ذي طائفة مأزومة مسلحة؟
وقد نجمّل الصورة قليلاً، فلا نتحدث عن الدم والقتل الذي بات علامة المشهد العراقي بامتياز، فلدخل مدينةً من مدن الجنوب والوسط الفراتي، ترى، لماذا تختفي مباهج الحياة هناك، مع أنَّ الماء الانهار والنخل والاشجار دوال أكيدة على العيش الرغد والهناءة؟ فهي عناصر الجمال كله، لماذا يتفنن القائمون على أمر المدن تلك بتقبيحها الى الحدِّ المفزع هذا، وحتى مَ تظل الناس هناك في دوامة اليأس تتقاتل ولا تنتصر، ومن أجل ماذا يراكم قومي، سكان الريف الأسلحة والرصاص؟ وكم سيطول صمت الحكومة على الإذلال والقهر الذي يتعرض له المساكين هؤلاء. ولمصلحة من تتغافل الجهات الأمنية، بملايين أعدادها وأسلحتها التي أقسمت على حماية أرواحهم وممتلكاتهم عن مقاتل أبنائنا وبناتنا.
العالم يتلون ويتجدد من حولنا، والحكومات تتسابق على استقطاب السائحين والزوار، ورؤساء البلديات هناك يتفنون في جعل فترة خدمتهم هي الافضل على من سبقهم، وكل ما في الصور التي نتلقاها من هناك يبعث على الحياة بوصفها غاية الوجود الإنساني، وأننا مجبولون على قبول الآخر، وإن الأرض تتسع لنا جميعاً، ولا حاجة في الإنسان لمسدس كاتم لكي يعيش أطول، أبداً، وما يعتقد به هو خاصته وحرٌّ فيه، لكنني، بحاجة لما أعتقده وأظنه صالحاً لي. كأس النبيذ التي أشربها في المساء لا تقدح بإيمانك ومعتقدك، ولا سلطان لك على شعر ابنتي المكشوف. أنت توالي من تريد شريطة أن لا تبيع البلاد الى أوليائك، هذه البقعة من الأرض لي ولك، لكننا أمناء عليها معا، فلا تجعل من حبك لولي نعمتك باباً لدخوله عليّ والعبث بما أمتلك وأحبُّ وأقدّس، هناك شيء اسمه وطن مشترك.
لا أحد قبل سقوط نظام صدام حسين كان يعتقد بأنَّ الاسلام دينٌ صعبٌ الى الحد المفزع، فما حملناه في قلوبنا عنه تبدد في سبعة عشر عاماً لا أكثر، ولا يقول أحدٌ لنا بأنَّ الصورة الحقيقية للدين لم تكن هكذا، أبداً، ففي ظل غياب الانموذج الديني الإنساني تمكنت الجماعات المسلحة، وبشقيها السني والشيعي من طرح فكرة واحدة لا غير، تقول: هذا هو الدين، قتل ودماء واستباحة، وما عليكم إلا أن تقبلوا به أو تكونوا خارج رعايتنا، بنادقنا كلها في صدوركم، وما أنتم إلا ما نملك من رقابكم، دمك ومالكم وأعراضكم حلال لنا، بموجب الشرع والنصوص، ونحن من يتولى القصاص منكم إن طالبتم بالحياة التي تعتقدون بها، ما نرسمه ونخطط له هو ما يجب أن يتبع، وما عليكم إلا الإذعان.
لم تتمكن جهة دينية من طرح البديل الحياتي لنا، وما عدنا نرى حقيقة ومعنى الحياة التي خلقنا من أجلها، فهي إما ضعيفة ومستلبة ولا حول لها، أو متناغمة مع ما يحدث بعد أن صادرت الأحزاب والجماعات المسلحة كل إرادة بالتغيير. أي أمل بحياة لنا في بلاد محكومة بأكثر من 100 فريق مسلح وتتفوق على قوة وسلاح الدولة نفسها؟ أي صورة أقل عتمة من هذه التي نحاول أن ندفعها بالأمل؟ ومن بيننا سيثق بحملة لأنتزاع أسلحة المليشيات والعشائر وقد سبقتها عشرات الحملات الفاشلة، ترى، من يملك ألوان الوهم ليرسم لنا صورة ملونة لوطن لم نعد نملك فيه إلا اليأس والخيبة؟