TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > تلويحة المدى: يوسف الناصر:الانشقاق عن إرث الرسم العراقي المعاصر

تلويحة المدى: يوسف الناصر:الانشقاق عن إرث الرسم العراقي المعاصر

نشر في: 14 مايو, 2010: 06:50 م

شاكر لعيبيلا يمكن مقاربة أعمال الرسّام يوسف الناصر (ولد في مدينة العمارة عام 1952) إلا انطلاقاً من انشقاقه الجليّ عن التيّارات، بل التيّار الجماليّ، الأساسيّ الذي يهيمن على فن التصوير في العراق منذ سنوات السبعينيات في الأقلّ، إذا لم يكن قبل ذلك قليلاً. هنا أمران من الضروري التوقف عندهما عند قراءة الناصر: (الانشقاق) المفهوميّ المُفترَض
 و(التيّار) الجماليّ البارز في البلاد وخارجها بتلوينات وحِيَلٍ ومحاولاتٍ شخصية شتى. نتكلم إذنْ بالأحرى عن تيّار حديث، تجريديّ أو ذي واقعية حرة غامر في تأصيل حداثةٍ ما في البلاد لكنه ارتوي، دون شك، من نزعةٍ محلية وسعى لتعريب، إذا لم نقل "تعريق" الفن العالمي، وهو يستند إلى الموضوعات القريبة من المزاج الثقافي العريض، مستعيداً أنماط الزخارف والإشارات البصرية التاريخية وتشكيلات السجّاد ومزج الحروف بالألوان الزيتية واغترف من العلامات المحلية والإسلامية والشعبية في إطار ألوان حارة مبهجة في الغالب، لقد اتسم هذا التيار مهما اختلفت أساليبه، بتوجهات تزويقية مُتلبسة بما يشابه البحث التشكيليّ الجاد، ووقع تقديمه بممهدات نظرية حداثية متماسكة أو مرتبكة. تيار طاغٍ- ما عدا استثناءات باهرة قليلة- يمكن أن يصفه ناقد أوربي (بالزخرفيّ)، وهو يرى إلى إصراره على غواية المتلقي عبر الأشكال التي تعاوِد بسط الإرث البصريّ المعهود وتقديم وصفاتٍ لونية ذات إغراء خارجيّ باسم العودة إلى (المحلي) و(التاريخي) و(العربي) التي أطلقها خمسينيو الفن التشكيليّ في البلد وظلت من حينها دون مراجعة وتأمّل. لقد توقفتْ جزئياً المراجعات النقدية الجريئة طيلة ثلاثين عاماً لأن العودة للمحليّ التشكيلي كانت رديفا للإسهام الوطنيّ في تاريخ الفن وكانت، قبل ذلك، تستجيب لهوى أيديولوجي في فكر "بعل" السياسيّ المُسَيْطِر وعقائد صُنّاع البرامج الدراسية في أكاديمية ومعهد الفنون الجميلة في البلاد. نادراً ما رأينا فناناً عراقياً يتخذ مسافة أو موقفا جذرياً من طغيان هذا التيار التزويقي بالمعنى العميق للكلمة، لأن ثمن مسافةٍ وموقفٍ كهذا سيكون، على ما يبدو، باهظاً سواءً بالنسبة لحضور الفنان في الأوساط التشكيلية أو لحظوظه في سوق الأعمال الفنية التجاري.لم يهتم يوسف الناصر للحظةٍ واحدةٍ، طيلة ثلاثين عاما من اشتغاله بالرسم، بنزعة التلفيق الحداثوي المنضوي تحت لواء العودة للمحليّ، المشكوك بأمره مفهومياً، التزويقيّ في جوهره شكلياً، وهو يدفع الثمن الباهظ على حد علمنا في حضوره الشخصيّ، متعرضاً للخسارة على كل صعيد. إنه يقدم فنا (داكناً)، لا يستقيم مع بهجة العروس المزوّقة التي لفرط تزويقها فقدت نضارتها و"أصالتها".من وجهة معينة يمكن قراءة رسمه على أنه فن التأمل الصعب الذي لا يتيسَّر تذوُّقه لجميع الواقفين بانخطاف إزاء الرسم الزاهي الطاغي. ومن وجهة أخرى يمكن قراءة موقفه الوجوديّ الإشكاليّ من العالم والكائنات بالمقارَبة مع موقف كاتب مثل صموئيل بيكت. قد تُدْهِش، وربما تُقْلِق هذه المقاربة الناصر، لكنها في جميع الأحوال تشير إلى السأم وعدم القناعة والعزلة الدرامية والطرفة الدامية والعبث والإصرار على الحضور في الوجود التي نعرفها لدى يوسف الناصر، وهي عينها ولا شيء سواها، حرفيا، لدى بيكيت. من هنا خرَجَ مسرح بيكيت، ومن هنا أيضا يخرج رسم الناصر، دون موعد مسبق بينهما. أن سوداوية بيكيت تجْمَع مفهوم العبث في الوجود مع البحث المسرحيّ الدقيق، وإن سوداوية الناصر المرحة التي نعرفها منذ كان طالبا في أكاديمية الفنون الجميلة سنوات السبعينيات تجْمَع العابثَ الحالم مع الرسام المتأمل البصير.لنقرّر، مهما كانت درجة التقريظ في تقرير مزعوم مثله، أن الناصر يَعْرِف جيداً الرسم المنظوريّ و"الواقعيّ"، وهو يستثمره من الداخل خير استثمار لصالح مشروعه التشكيليّ المتأرجح بين التشخيص والتجريد. لكن لنقرّر الأمر التالي: أن الناصر يطرح أسئلة على (فن الرسم) عبر (عملية الرسم) الشخصية المخصوصة به. ولكي نُبسَّط الأمر فإننا نعتقد بأنه يسائل التخومَ التي يمكن للرسم فيها أن يتلامس مع المشكلات الوجودية الكبرى وأن يكون، هذا الرسم نفسه، تعبيرا أصلياً عن قلق أصليّ في الذات الإنسانية. وإذنْ فإنه لا يركن لتفسير هواجس رسمه عبر الخطاب اللفظيّ اللغويّ، كما يفعل الكثير من الرسامين، إنما عبر الرسم نفسه. وهو ما يمكن أن يفعله شاعر حقّ عندما يستنطق فن الشعر عبر النصوص الشعرية التي يكتبها وليس عبر شروحٍ ضافية لها ملحقة تالياً بطريقة وأخرى. إن شُرّاح لوحاته هم لوحاته. لكن لا شيء يمنع رساماً أو شاعراً أن يقول كلمة لاحقة عن فنه، وهو حال الناصر الذي يفضّل، رغم ذلك، أن يترك الأمر لمنطق الرسم ولغته.إننا نفترض أن خيباته جمّة لأنها تأتي من وسط تعوَّد على الشارحين البارعين أمام زاد قليل ملّونٍ وزاهٍ لا يعترف بالمنحى الغامق التأملي للوحاته.لنقرّر كذلك، بثمن باهظ مثل الثمن الروحيّ الذي يدفعه يوسف الناصر، أن اللوحة في حالته هي عمل ثقافي مغموس في الوقت نفسه بحساسيةٍ وروحٍ جامحين، وليس محض متعةٍ زائفة سريعة الذوبان. عمل ثقافي يتطلب معرفة وجهداً ولذة، في إنتاجه وفي استقباله. الأمر غير المتيسر دائماً في الوسط الثقافي الذي يريد من ال

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram