جوزيف ستيغلتز
ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
تشيع في أيامنا الموبوءة بالجائحة الكورونية أفكار لاتعدو أن تكون تمثلات لفكر رغائبي Wishful Thinking يشيعه بعض أقطاب الفكر العالمي (اليسار الجديد مثالاً) :
إنهيار الإمبراطورية الأميركية ، تصدّع التكتلات الكبيرة (الإتحاد الأوروبي على سبيل المثال) وإعادة إحياء الدولة القومية المدعمة بصبغة دينية (على شاكلة الإتحاد الروسي)، صعود الإمبراطورية الصينية كقطب أوحد بديل أو منافس للقطب الأمريكي ،،،، إلخ
قد يحصل شيء من هذا في السنوات أو العقود القليلة القادمة ؛ لكنه لن يتخذ سمة السردية الكبرى (على شاكلة نهاية التأريخ) بقدر ما سيكون إنعطافة هادئة تمليها ضرورات براغماتية وليست آيديولوجية .
من الطبيعي أن تتعالى الأصوات المنادية بموت الرأسمالية عند كلّ أزمة وجودية تعانيها البشرية ، ولعلّ هؤلاء المنادين بموت الرأسمالية إنما يقصدون السياسات النيوليبرالية (أو الرأسمالية المتأخرة طبقاً لمصطلحات المنظّر الثقافي فريدريك جيمسون Fredric Jameson) – تلك السياسات التي هي بعض مواريث السياستين الريغانية والتاتشرية اللتين أطلقتا يد الأسواق الحرة المتغوّلة وأعلتا شأن الإقتصاد الرمزي القائم على المشتقات المالية بدلاً من عناصر الإنتاج الحقيقية .
يبدو أن السياسات النيوليبرالية قد آن لها أن تنتهي ؛ لكن السياسات الرأسمالية سيعاد تكييفها إلى حد قد تبلغ معه مرتبة الرأسمالية التشاركية .
ستكون تجربة فريدة في نوعها أن نستمع لرأي واحد من أكابر علماء الإقتصاد في عصرنا هذا بشأن موضوعة السياسات النيوليبرالية ، وأعني بذلك جوزيف ستيغلتز Joseph Stiglitz، المؤلف غزير الإنتاج، والحاصل على جائزة نوبل، وأحد أفضل الخبراء الذين يتوفّرون على قاعدة ثقافية عريضة تتيح له عرض المعضلات الإقتصادية في إطار سياقي واسع مشتبك مع الفعاليات الإنسانية في شتى تمثلاتها الفاعلة.
يسرّني أن أقدّم ترجمة لمقالة تحمل طاقة نبوئية مثيرة كتبها ستيغلتز في صحيفة ( الغارديان ) البريطانية واسعة الإنتشار بتأريخ 30 مايس 2019. العنوان الأصلي لهذه المقالة هو:
Neoliberalism must be pronounced dead and buried. Where next?
ويمكن للقارئ المعني الرجوع إلى الصحيفة المذكورة لقراءة هذه المقالة مع عدد وافر من مقالات أخرى دأب البروفسور ستيغلتز على نشرها في الصحيفة منذ أعوامٍ خلت .
المترجمة
أيّ نوعٍ من المنظومة الإقتصادية هو الأكثر استجلاباً للرفاهية الإنسانية؟ ذلك هو السؤال الذي أصبح يعرّفُ الحقبة الراهنة ؛ لأننا ، وبعد أربعين سنة من الممارسات النيوليبرالية في كلّ من الولايات المتّحدة وسواها من الإقتصاديات المتقدّمة ، غدونا نعرفُ ماالذي لاينجح في هذه الممارسات .
التجربة النيوليبرالية بكلّ خصائصها المعروفة: ضرائب أقلّ على الأغنياء، إزالة الضوابط الحاكمة لأسواق العمالة والمنتجات ، شيوع المشتقات المالية بصورة متغوّلة، العولمة ،،،، إلخ قد أبانت عن نفسها بكونها فشلاً صارخاً ؛ فالنمو صار أقلّ من المستوى الذي كان عليه في ربع القرن الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الثانية ، وحتى هذا النمو المتضائل الذي تحقّق إنما جاء لمصلحة قلّة قليلة من المتربّعين على قمّة ذوي المدخولات الأعلى بين البشر؛ وعليه فقد صار لزاماً إعلان موت النيوليبرالية ودفنها وبخاصة بعد عقود عدّة من الركود - بل وحتى الفشل - في تحقيق نموّ معقول في مدخولات هؤلاء القابعين أسفل قمّة النخبة الأكثر دخلاً في العالم .
هناك، على أقلّ تقدير ، ثلاثة بدائل سياسية يطمح كلّ منها لخلافة المنظومة النيوليبرالية: النزعة الوطنياتية المنتمية لأقصى اليمين، النزعة الإصلاحية المنتمية لليسار الميّال إلى الوسط ، ثمّ اليسار التقدّمي الذي يحمل معه بعض المنتمين لليمين الميّال للوسط والذين يمثّلون بعض بقايا التيار النيوليبرالي الآفل ، تبقى كلّ هذه البدائل الممكنة ( باستثناء اليسار التقدّمي ) ممثّلة لشكلٍ ما من الآيديولوجيا الغاربة أو التي يتوجّبُ تنحيتها جانباً واعتبارها فاقدة للصلاحية في عصرنا هذا .
يمثّل يسار الوسط ، على سبيل المثال ، النيوليبرالية معروضة بوجه إنساني ، ويسعى هذا التيار إلى وضع السياسات التي إنتهجها الرئيس الأميركي الأسبق ( بل كلينتون ) ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق ( توني بلير ) موضع التطبيق الفعّال في القرن الحادي والعشرين ، وهي إذ تسعى في هذا الإتجاه فهي لاتتطلّع لفعل شيء سوى إجتراح بعض التعديلات المخفّفة للأنماط السائدة من النيوليبرالية وبخاصة حول كلّ من شيوع ظاهرة المشتقات المالية ، والعولمة ؛ في حين أنّ تيار الوطنياتية اليمينية ينظر باحتقار إلى العولمة ويضعُ كلّ المعضلات الإشكالية التي تعانيها المجتمعات الغربية المتقدّمة في يومنا هذا على كاهل كلّ من المهاجرين والوافدين الأجانب ؛ ولكن هذه النيوليبرالية في نسختها الأميركية المعدّلة ، وعلى النحو الذي تكشف عنه رئاسة ترامب ، لاتبدي مثل سابقتها أي إلتزام نحو تطبيق نظام ضريبي متصاعد بحقّ الأغنياء مثلما لاتبدي أي إلتزام تجاه مناقضة الإتجاه السائد في إزالة الضوابط الحاكمة للأسواق أو تجاه تقليص أو إزالة برامج الحماية الإجتماعية .
على النقيض من الخياريْن السابقين ينافح أنصار الخيار الثالث عمّا أرغب بتسميته (الرأسمالية التقدّمية) – تلك الرأسمالية التي تبشّرُ ببرنامج عمل (أجندة) إقتصادي مختلف بشكل متطرّف عن سابقيْه ، ويعتمد هذا البرنامج على أسبقيات أربع :
الأسبقية الأولى: المحافظة على التوازن القائم بين الأسواق والدولة والمجتمع المدني. إنّ تباطؤ النمو الإقتصادي، واللاعدالة المتصاعدة في توزيع الدخول، وفقدان الإستقرارية المالية، والتدهور البيئي هي معضلات خطيرة خلقتها الأسواق ، وبالتالي لن يكون منطقياً الإعتقادُ بأنّ في مستطاع هذه الأسواق ذاتها إجتراح حلول لهذه المعضلات مستعينة بآلياتها الخاصة حسب. الحكومات لها واجب خاص ملقى على عاتقها يتمثّلُ في تقنين دور الأسواق وتشكيلها بكيفية تضمنُ السلامة البيئية والصحية والمهنية فضلاً عن إنماط أخرى من الضوابط الحاكمة لعملها، وكذلك فإنّ من واجب الحكومة عمل كلّ مالاتستطيع الأسواق عمله (أو لاتعمله الأسواق أصلاً لأنها لاترى فيه شأناً يخصها أو يزيد أرباحها، المترجمة)، مثل: الإستثمار الفعّال في كلّ من قطاعات البحوث الأساسية، والتقنية، والتعليم، والصحة.
الأسبقية الثانية : تكمن هذه الأسبقية في إدراك حقيقة أنّ " ثروة الأمم " إنما هي نتاج الفضول الناجم عن المساءلة العلمية Scientific Enquiry (أي التعلّم المستديم بشأن العالم الذي يحيطنا ونعيش فيه) إلى جانب إدراك طبيعة التنظيم الإجتماعي الذي يسمح لجماعات كبرى من البشر بالعمل سوياً من أجل تحقيق الصالح العام . الأسواق من جانبها لازال أمامها دور حاسمٌ تضطلع بأدائه بغية تسهيل الشراكة الإجتماعية؛ لكن يجب دوماً إدراك أنّ الأسواق لاتخدم هذا الغرض بفعالية مالم تكن محكومة بضوابط القانون وخاضعة للمراجعات التي يفرضها العيش في بيئة ديمقراطية ، وبعكس هذا يمكن لأفراد محدّدين أن يغتنوا إغتناءً فاحشاً عبر إستغلال الآخرين ومراكمة الثروة بطرق عدّة بدلاً من تخليق الثروة عبر الأصالة الفكرية والإنعطافات العلمية والتقنية ، إنّ الحقيقة الصارخة اليوم تنبؤنا أنّ كثيرين من فاحشي الثراء بلغوا مابلغوه من عتبات الثراء الفاحش بواسطة إستغلال الآخرين ، وقد خدمتهم سياسات ترامب خدمة لم يحلموا بها بعد أن جرى تعظيم شأن الثروات الناشئة عن المضاربات والسمسرة على حساب تحطيم الاصول الحقيقية المفضية لتخليق حقيقي للثروة . تسعى الرأسمالية التقدّمية إلى تحقيق مقاربة مخالفة لهذا تماماً ، وهو الأمر الذي يقودنا بصورة تلقائية إلى الأسبقية الثالثة .
الأسبقية الثالثة : وهذه أسبقية تدفعنا إلى مساءلة المعضلة المتنامية الخاصة بتغوّل سلطة الأسواق ، عمل إستغلال الفوائد التي جاء بها العصر المعلوماتي فضلاً عن شراء الشركات المنافسة على زيادة سلطة الشركات المهيمنة التي باتت تستطيعُ الدخول في عمليات رأسمالية واسعة النطاق قادرة على إلحاق أذى خطير بكلّ فرد منّا ، إنّ التصاعد المتغوّل في سلطة الشركات مقروناً بالتضاؤل المتزايد في القدرة التفاوضية للعمّال هو الحقيقة التي بمقدورها تبيان السبب الكامن وراء تصاعد معدّل اللاعدالة في توزيع الثروات والإنخفاض المريع في معدّل النمو الإقتصادي ، ومالم تتخذ الحكومات أدواراً أكثر فاعلية ممّا تفعل الحكومات المحكومة بالسياسة النيوليبرالية فإنّ من المحتمل أن تتفاقم مفاعيل هذه المعضلات أكثر من ذي قبلُ وبخاصة إذا ماوضعنا في حسابنا تأثيرات الروْبتة robotisation والذكاء الإصطناعي .
الأسبقية الرابعة : تقوم هذه الأسبقية في أجندة الرأسمالية التقدّمية على تقطيع أواصر الصلة بين القدرة الإقتصادية والتأثير السياسي . لطالما تبادلت القدرة الإقتصادية وفاعلية التأثير السياسي أدواراً عزّزت شأن الإثنين وصلّبت من إمكاناتهما بصورة تبادلية ، ويظهر هذا الأمر بأجلى صوره في الولايات المتّحدة حيث يمكن للأفراد فاحشي الثراء والشركات فاحشة الثراء الصرف على حملات الإنتخابات من غير سقوف لحدود الصرف، حتى بلغ الأمر مبلغاً صارت معه الولايات المتّحدة تمضي حثيثاً في إتجاه أن تصبح منظومة غير ديمقراطية ؛ الأمر الذي قد يطيح بمبدأ التدقيق والموازنة بين المصالح المتعارضة والذي في غيابه لايمكن لأية ديمقراطية حقيقية أن تبقى راسخة بعد أن لايعود بمقدور أي شيء لجم سلطة الأغنياء وتقييدها إلى حدود مقبولة ، ليست هذه معضلة أخلاقية أو سياسية حسب ؛ فقد علّمتنا الخبرة الممتدّة أنّ الإقتصاديات التي تنطوي على قدر أقلّ من مظاهر اللاعدالة في مداخيل الأفراد إنما تعمل بطريقة أفضل من سواها ، وعلى هذا الأساس يتوجّبُ على الإصلاحات المنوطة بالرأسمالية التقدّمية أن تشرع بلجم التأثيرات المتعاظمة للمال في السياسة بالإضافة إلى تقزيم مظاهر اللاعدالة في توزيع الثروة .
ليس ثمة من رصاصة سحرية يمكنها عكس تبعات التأثيرات التدميرية لعقود من النيوليبرالية ؛ لكنّ خارطة عمل شاملة تتابع الخطوط التي أشرنا لها أعلاه يمكنها أن تفعل هذا : يتوجّبُ على خارطة العمل الشاملة هذه أن تضع تركيزها الأعظم في قطاعات التعليم والبحوث الأساسية وسواها من القطاعات التي تخلق الثروة الحقيقية ، ويتوجّبُ على هذه القطاعات أن تحافظ على البيئة وتكافح التغيّر المناخي بذات العزيمة الهائلة التي يبديها مناصرو " الصفقة الخضراء الجديدة " في الولايات المتّحدة وكذلك المتمرّدون على حتمية الإنقراض القادم في المملكة المتّحدة ، إحدى المزايا المهمّة في هذه الأجندة التقدّمية هي ضرورة أن توفّر برامج مجتمعية شاملة تكفلُ عدم حرمان أي مواطن من المتطلّبات المعيشية الأساسية الخليقة بحياة محترمة ، وتتضمّنُ هذه المتطلّبات : الأمن الإقتصادي ، ضمان العمل والأجور المعيشية الكافية ، الرعاية الصحية ، الإسكان الكافي واللائق ، تقاعد آمن ، تعليم ذو نوعية ممتازة للأطفال . إنّ هذه الأجندة يمكن تحمّل تبعاتها والنهوض بمتطلباتها بكيفية لائقة ، وليس أمامنا من بديل ممكن سوى أن نفعّل هذه الأجندة بكلّ قدراتنا ؛ إذ أنّ البدائل الأخرى التي يعتمدُها غلاة الوطنيين أو النيوليبراليين لن تكون أكثر من وصفة مؤكّدة لترسيخ الركود الإقتصادي ومظاهر اللاعدالة والتدهور البيئي والخديعة السياسية ، وهذه كلّها مظاهر يمكن أن تقود إلى تبعات خطيرة لانريد حتى تصوّرها .
الرأسمالية التقدّمية ليست محض حذلقة لفظية ؛ بل هي البديل المتاح الأكثر قدرة على الفعل من آيديولوجيا ثبت فشلها بكل وضوح ، ولكونها تمثل هذا البديل المتاح فإنّ الرأسمالية التقدّمية تمثّلُ الفرصة الأفضل المتاحة لنا للخلاص من حالة الوهن الإقتصادي والسياسي السائدة في أيامنا الراهنة .