طالب عبد العزيز
كانت ماري انطوانيت(1700-1793) أميرة نمساوية من آل هابسبورك قبل أن تصبح زوجة للأمير لويس السادس عشر(1754-1793) ومن ثم ملكة على عرش فرنسا كلها قد أمضت نصف حياتها وهي لا تشعر بانتماء حقيقي لفرنسا،
وظلت تنفق ما تتناوله يدها على ملذاتها في الثياب والجواهر وحفلات القمار الليلية وغيرها في فعل لا يخلو من انتقام مبطن وقطيعة عدوانية بين انتمائها الأول للنمسا ووجودها الملكي بفرنسا، الذي لم يلمس عمق الخلاف الدامي الأزلي فرنسا وآل بوربون من جهة والنمسا وآل هابسبورك من جهة ثانية حتى لحظة سقوط باريس بيد الثورة الفرنسية.
مثل ماري انطوانيت التي لم تشعر يوماً بانتمائها لفرنسا ، لم يشعر غالبية الزعماء العراقيين الذين دخلوا بغداد على الدبابة الامريكية بانتمائهم للعراق، فهم أبناء البلدان التي جاؤوا منها، بعد طول عيش رغيد هناك، وبعد انتماء الى المنازل التي آوتهم، وتنعموا فيها بالعيش الكريم الآمن، ولعل ما كانت تنفقه ماري انطوانيت على نفسها يذكرنا بالمال الذي أنفقه هؤلاء في العراق وخارجه، ويجعلنا نتأمل الصورة التي يعلقونها بأذهانهم على إدامة ثراء أسرهم، من خلال تأسيسهم الشركات والفنادق والبيوت التي اشتروها بالمال العراقي. هؤلاء، لم ينتموا للعراق يوماً، ولا يعنيهم من شأن البلاد أمراً، فقد نشؤوا متنعمين هناك، في الغرب الأوروبي الجميل أو في المدن الاميركية بنمطها الحياتي المعروف، أو في إيران التي عمقت شعورهم الطائفي والمذهبي وسلختهم عن عراقهم الذي كانوا فيه، أو في دبي واسطنبول وغيرها وكلها مدن تختلف بطبيعتها الجغرافية والإدارية عن بغداد والمدن العراقية المحترقة الأخرى.
ليست الأوطان خرقة تمسح بها رائحة الخيانة وترمي بها في سلة النفايات، ولا يشعر بالوطن إلا من تقلب على رمضائه واكتوى بنار وجوده فيه، إلا من يتحسس بأن كل قطعة من أرضه ومياهه وسمائه إنما هي قطعة من لحمه ودمه وكينونته، التي لا يجدها إلا فيه. أتذكر جملة النائب حيدر الملا:" كل الطبقة السياسية رتبت أمورها" إعتراف خطير بتنكر كامل للوطن، فترتيب الأمور لا يعني البقاء في الوطن، إنما خارجه، فالوطن غير آمن، ولا يصلح للعيش بعبارة سامي العسكري حين سُئِل عن حياة ومستقبل أولاده.
مازال سكان البصرة يتذكرون امتلاء ردهة العناية المركزة بمستشفى البصرة العام بعشرات الملاكين والفلاحين، الذين جرّفت الشفلات بساتينهم، وأسقطت النخل وأشجار الفاكهة في الحملة المعروفة بفتح طريق نيسمي يمكّن الجيش من الحركة ومواجهة العدو الايراني في حرب الثماني سنوات. لم يتمكن هؤلاء من معاينة مشاهد ردم الأنهار وتجريف الأرض وهي تخلوا من النخل فسقطوا صرعى الحب والانتماء والعشق. ولن أنسى ما حييت (الملّا خضير) الذي لم يعش أربعين يوماً بعد تجريف بستانهم، فقد سقط مغشياً عليه ولم يُرَ إلا جثة هامدة. لأنه لم يتحمل رؤية النخل الذي غرسه أشلاء تمزق. هؤلاء هم عراقيو الأرض بحق، انتموا للأرض التي عاشوا فيها، ولم يروا بلاداً غيرها، لذلك اخلصوا لها.
هل صار العراق طارداً لسكانه؟ مكان لا يصلح للعيش بتعبير بعض التقارير ؟ ربما، ذلك، لأنَّ حكامه ارتكبوا الجرم الأكبر فيه، فهم الذين جعلوه منطقة طاردةً باهمالهم له، وبتخريبهم لأنسانه ومدنه وطبيعة مناخه أيضاً. الإنسان بفطرته وطبعه ميال الى الحياة الآمنة والمدن النظيفة وفرص العمل الحر والعيش الكريم، وكذلك الى المناخ المعتدل والطبيعة الجميلة، وغيرها من ممكنات الحياة، لكنَّ حكام العراق وعلى مدى سبعة عشر عاماً امعنوا في تخريب كل شيء، ما قام به حكامه الغرباء أسوأ بكثير مما عملته ماري انطوانيت في فرنسا.