لطفية الدليمي
حين كان احتلال القارات البكر مثل القارة الأميركية الثرية بمواردها الطبيعية في ظاهره ( استكشافاً ) وسعياً لتمدين القبائل البدائية الهمجية ، وهو في حقيقته غزو لقبائل مسالمة - تحتفي بالطبيعة والجمال - للاستيلاء على أراضيها، يومها كان الغزاة يصطحبون الكتّاب ومدوني تاريخ المعارك ليكتبوا عن بطولات جيش اسبانيا وهو يغترف الذهب والفضة من القارة الأميركية البكر، لإمداد ملك اسبانيا بالأموال، بعد عزمه إرسال أساطيل جديدة لاكتشاف مجاهل أفريقيا وجزر المحيطين الهادي والهندي .
قام مستكشفو أميركا كما ذكر المؤرخ الأميركي هاوارد زن في كتابه "التاريخ الشعبي لأميركا" بتجريد السكان الأصليين من أراضيهم وقتلهم ثم أسر نسائهم الجميلات لإمتاع قادة حملة الاستكشاف ،ونتيجة هذا الاختلاط العرقي بين الأوروبيين والمواطنات الأصليات ولدت أجيال خلاسية هجينة ، وفرّت المزيد من العبيد والأيدي العاملة للمستعمرين الجدد.
بعد سنوات قليلة من الغزو الأوروبي للأمريكتين انتشرت الأمراض الوبيلة المنقولة من أوروبا القرون الوسطى مما تسبب في هلاك نحو 80 % من السكان الأصليين بهذه الأمراض تارة أو بسبب أوضاع العبودية المروعة حين كان يجري صيد الهنود الحمر كما تصطاد الضواري ويؤخذون للخدمة في بيوت المستعمرين الأسبان ومزارعهم.
كتب المستكشف كابيزا دو فاكا المصاحب لإحدى الحملات، رسالة يصف فيها طريقة عيش بعض قبائل الهنود الحمر وعاداتهم في منتصف القرن السادس عشر بعد نحو قرنين من رحلة كريستوف كولومبوس، يكتب دي كافا مستغرباً 🙁 كان من بين تلك العادات وعندما يتقاتل رجلان من القبيلة فيما بينهما لايجوز لهما أن يستخدما سلاحاً كالسهم أو الرمح أو غير ذلك، بل يتقاتلان بأيديهما فقط منعاً لإراقة الدماء وحفاظاً على الأرواح الثمينة، وإن لم تُحَلّ المشكلة بين الرجلين المتخاصمين، يذهب كل واحد منهما إلى قبيلة أخرى، وينتظران فترة حتى تهدأ النفوس - وستهدأ حتما بعد فوران الغضب - ثم يعودان الى قبيلتهما هادئين مسالمين ويصبحان صديقين ) .
هكذا كانت القبائل البدائية تقدر الحياة وتعدها أثمن هبة للكائنات الحية ولابد من الحفاظ عليها وعدم التفريط بها ، لقد وصفها المستكشف كاتب الرسالة كابيزا دو فاكا بالـقبائل الـ "بربرية" أو الـ"همجية"! أيعقل أن يوصف سلوك كهذا السلوك المسالم المدرك لقيمة الحياة البشرية بالهمجية ، لا لشيء إلا لأن تلك القبائل لها عقائدها الخاصة ولاتدين بعقيدة المحتلين الأسبان ؟؟
لو قدّر للدون كابيزا دو فاكا العيش بيننا في القرن الـ 21 ورأى كم يستهين ( المتحضرون) بالحياة حتى لتصبح بلا قيمة ويسهل إهدارها لأسباب واهية سواء على مستوى الدول العظمى وهي تحتل بلداناً وتعمل على تدميرها ، أوعلى صعيد المنظمات الإرهابية التي تفتك بالناس، أو كما يفعل مزارعون جهلة حين تقتحم بقرة أحدهم حقل عشيرة أخرى فتطلق العشيرة النار على البقرة ويقتل أصحاب البقرة قاتل بقرتهم وتشتد المعركة فيلتحق بالقتال عشرات من رجال العشيرتين في فزعة قبلية أشبه بغزوات الأزمنة القديمة، ويستخدم الجانبان في قتالهما كل منتجات الحضارة من سيارات دفع رباعي وموبايلات وأسلحة أوتوماتيكية وصواريخ ، وتتسع المعركة لتمتد إلى المدن فيتساقط المزيد من الضحايا دون أن يحسم الخصام .
ترى ، بم كان دي فاكا سيصف الدول الكبرى الغازية ؟ هل هي همجية وبربرية ؟؟ وكيف سيصف هذه العشائر المتحاربة بأحدث الأسلحة من أجل قبضة عشب قضمتها بقرة جائعة ؟ هل سيصفها بأنها ( همجية ) وهي ترتدي مصنوعات الحضارة الآسيوية وتستهلك منتجات الحضارة الغربية وتهدر كل قيمة إنسانية في غلواء غضبها البدائي ؟