TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شجيرة الدفلى تلك

شجيرة الدفلى تلك

نشر في: 12 نوفمبر, 2012: 08:00 م

للظلال طعمٌ مختلفٌ في مكانها وزمانها المختلفين، فظلال شجرة في ممر بقرطبة ذكرتني بولادة بن المستكفي وهي تقطف زهرة لتضمنها قصيدة، ولا يشبه الأمر ظلال تلك الشجيرات في حديقة، أو بارك، قرب القصر الأبيض يوم كان العراقيون أبعد من تاريخهم الراهن الخالي من الحدائق، وهناك كانت شجيرة دفلى لا ترتفع كثيراً أعلى من قامتي القصيرة، طفلاً، في طريقه إلى بيت عمه، خلف السدة في أكواخها الغارقة بـ(شطيط) النتن فوق العادة.. لكنها دفلى لم أرَ في حياتي اللاحقة أعبق منها، وهي بلا عطر، في حدائق العالم، كلها، حتى في دولة الزهور، هولندا!
لماذا؟
مكونات الذاكرة لا تكتسب معناها من حنين مجرد عندما نشارف أقصى النقد الموضوعي للوطن ومكوناته القديمة والحديثة، بل هي مكونات آثرت أن تبقى بفعل قسوة الحاضر لأن الماضي أقل قسوة، حتى أن شجيرة دفلى تنمو في ذاكرة طفل حتى شيخوخته، ولم يجد لها مثيلاً!
كانت المدينة قاسية، نوعاً ما، بقياس وعي لاحق لأنها لم تقتل أبناءها، حسب بل قتلت نفسها، فهجرت صورتها حتى لو منظر طبيعي، وانتمت إلى السياسة، فقتلت نفسها مرة ثانية.
من الوركاء إلى قرطبة، ومن بابل إلى دمشق، ومن سومر إلى بغداد، ومن بغداد إلى بيروت، ومن بيروت إلى حلبجة، ومن جميع المدن إلى جميع المدن، تأخذ الخطوات مسارها المستحيل إلى الحرية بينما التاريخ ثابت ولا يريد المؤرخ أن يلتفت إلى تفصيل عالم الاجتماع المأخوذ بالنادر والمختلف ليقيس عليه تكرار الظواهر مستعيناً بأكاديمية شخصية، لأن الداليون: الذين تبدأ أسماؤهم بحرف الدال حسب رواية البرتغالي خوزيه كاردوسو بيريس (صاحب الفخامة الديناصور) التحقوا بالحاشية وصار حتى الأطباء يعالجون ضحايا التعذيب في (قصر النهاية) كي يمنعوهم من الموت لأن المعلومات التي لم تزل بحوزتهم مهمة من أجل الأمن القومي ومسيرة الثورة وعليهم أن يبقوا أحياء أطول فترة ممكنة.
تلك المدينة الأولى، مدينتي، رغم مقدمات خرابها الأكيد، الذي بدأ مبكراً، مثل شيخوخة مبكرة، تخلت عن نفسها قبل أن تتخلى عنّا، نحن أبناؤها، فماذا نفعل؟ هي تخلت عن نفسها!
حاولنا أن نصون شجيرة الدفلى التي لم أجد ما يضاهيها في دانهاخ، ولا في كيو غاردن/ لندن ولا في ما تبقى من قرطبة الزهور والحب والسواقي الساحرة التي لا تليق إلا برومانس الماضي المتبطر، لكن تلك الشجيرة التي بلا عطر، كانت محايدة مثل طبيب مهني، لا يحفظ حياة ضحاياه من أجل تعذيب إضافي، ظلت تسهر عليّ أكثر مما سهرت عليها، فاندفع العطر (وهي غير عطرية) يملأ ذاكرتي ويعيدني إلى غربتي الصغيرة الأولى قرب القصر الأبيض لأنني كنت أحلم بسفر بعيد.
السياسة تقتل المدن، لا شك، فوحدة وصراع الأضداد، هما من قتل في المدينة روح المدينة: وحدة الأضداد، في جانبها التاريخي، لا المادي (حسب كارل ماركس) هي التي قتلت المدينة، وعندما تُقتل مدينة يعني مقتل المدنيين والمتمدينين ومن يدعون إلى المدنية.. أما صراعهم فها نحن نعيشه، اليوم، في ذروة تراكم تاريخي بدأ يوم 14 تموز 1958.
ألا ترون، معي، أننا حتى لو بدأنا بالاحتفاء بشجيرة دفلى صغيرة أعلى من قامتي القصيرة، طفلاً، في طريقه إلى بيت عمه، ننتهي عند أقسى ما روّع المدينة والمدنيين والحالمين بالدولة المدنية؟
إنها أفكار شاعر، لا سياسي ولا عالم اجتماع ولا سيكولوجيست، فأرجو المعذرة، إذا كنت حزيناً لأنني أفتقد تلك الشجيرة الصغيرة، في بارك السعدون، قرب القصر الأبيض، شجيرة الدفلى التي لم أجد ما يضاهيها، حتى اليوم، في أشهر حدائق العالم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

هل تنجح أسواق الهايبر ماركت في العمل في بيئة العراق؟

ماذا تبقى من القانون الدولي؟

اتحاد مقاولي ذي قار "غاضب" من تضرر 250 شركة: تخصيصات المشاريع الحكومية "غائبة"

ديالى تتجه نحو الطاقة الشمسية لمواجهة "أسوأ أزمة" كهرباء مرتقبة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جوبز ولعبة التصريحات

العمود الثامن: صيف المالكي

صمت!

العمود الثامن: تزوير ترامب !!

العمود الثامن: مستشار كوميدي!!

العمود الثامن: نشيد عالية وأخواتها!!

 علي حسين في العام 1965 قرر رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، تونكو عبد الرحمن، أن يطرد سنغافورة من الاتحاد الماليزي، في ذلك الوقت سأل أحد الصحفيين رئيس وزراء سنغافورة ماذا سيفعل؟ كانت الجزيرة بلا...
علي حسين

باليت المدى: من يتذكر سعيد شنين؟

 ستار كاووش من سنحت له فرصة متابعة الفن التشكيلي العراقي بشكل جيد، سيعرف لماذا أتساءل عن سعيد شنين، هذا الفنان الذي كان في الثمانينيات يملأ الوسط الفني بجمال خطوطه وقوة تكويناته المبتكرة وإحساسه...
ستار كاووش

الذين يتمسحون بأذيال السيستاني

غالب حسن الشابندر وأنت متوجِهٌ إلى الكرادة الشرقية ـ داخل بمقدمك من الباب الشرقي تستوقفك لوحة كبيرة قد عُلّقت على أحد أعمدة الكهرباء المنتصبة قبال جامع الجندي المجهول... لوحة مزدانة بإطار تمّ إختياره من...
غالب حسن الشابندر

هل تنجح أسواق الهايبر ماركت في العمل في بيئة العراق؟

علي الشرع الهايبر ماركت العراقي ليست ببدعة جديدة، فهي اسواق منتشرة مثيلاتها في العالم منذ عقود تجمع للزبائن في مكان واحد كل ما يحتاجه من سلع متنوعة (اما في العراق فسوف يستغني عن الذهاب...
علي الشرع
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram